بقلم: د. حسين عبد البصير
الباب الثاني: الظواهر الاجتماعية
الرماية
اعتنى المصريون القدماء برياضة الرماية كتدريب للدفاع عن الوطن ضد الغزاة والمجرمين. وأًصبحت تلك الرياضة من الرياضات التي مارسها ملوك مصر القديمة. وظهرت مناظر عديدة لرياضة الرماية على الآثار المصرية ومنها منظر من معبد سيتي بأبيدوس. وأيضًا هناك صور تضم مجموعة من الرماة يتدربون على رياضة الرماية عن طريق استخدام القوس والسهم.
وكانت رياضة القفز العالي أو ما يسمي بالوثب العالي معروفة في مصر القديمة حيث تظهر مناظرها في مقبرة «بتاح حتب» الموجودة في سقارة. ولقد مارس قدماء المصريون رياضات الحقول والمضمار مثل الوثب العالي. ومن بين الرياضات التي تندرج تحت ألعاب القوي مصارعة الثيران. وتعتبر مصر القديمة أولى الشعوب التي اتجهت أنظارها إلى الحيوان في ممارسة الرياضة. وهي بذلك تسبق جميع الأمم في تلك الرياضيات فتظهر في المناظر الفرعون وكيف يوقع العجل ويصارعه.
وكان من الطبيعي أن مارس المصريون القدماء رياضة التجديف سواء في نهر النيل أو البحار المحيطة بمصر. وتحتفظ الآثار المصرية بالعديد من النقوش والنماذج التي توضح رياضة التجديف ومنها منظر لمجدافين من الدولة الحديثة. لقد كان التجديف واحدًا من الرياضات التي تتطلب قوة بدنية عالية من جانب قدماء المصريين. وكان فريق التجديف يعتمد لاعبيه على التجانس في تجديفهم وفقا لإرشادات قائدهم الذي يتولى الدفة. وكان هذا القائد يتحكم في الفريق من خلال نداء معين لتوحيد الوقت الذي يلامس فيه المجاديف سطح الماء مما كان يساعد على دفع القارب للأمام بطريقة أكثر ثباتًا ومرونة.
وكان المصريون القدماء مغرمين بممارسة رياضة السباحة، فكانوا دائمًا يخرجون إلى شاطئ النيل لممارسة رياضة السباحة. وقد تم تصوير العديد من مناظر السباحة، ومنها منظر لفتاة وهي تعوم بين زهور اللوتس. وهناك نماذج عديدة لرياضة السباحة منها وعاء من الألباستر على هيئة فتاة سابحة في النيل. لقد كانت السباحة هي الرياضة المفضلة لدي قدماء المصريين الذين استغلوا نهر النيل لممارستها. ولم يكن نهر النيل هو المكان الوحيد الذي تتم إقامة المسابقات فيه حيث كانت قصور النبلاء تحتوي على حمامات سباحة لتعلم اللعبة. وقد شجعت مياه نهر النيل الهادئة الشباب على إقامة مسابقات السباحة لإظهار مهارتهم.
الصيد
لقد كان الصيد واحدًا من الرياضات التي كان يمارسها الملوك، والأمراء والنبلاء. ويوجد الكثير من الصور الخاصة بصيد السمك كهواية في المقابر. ويوجد في المتحف المصري أنواع عديدة من عصا الصيد والخطاف الذي كان يُستخدم للصيد والذي يوضح مدى تقدم هذه الرياضة في مصر القديمة. وكان رمي الرمح أثناء العصر الفرعوني في بادي الأمر متصلاً بالصيد. واختلف طول الرمح وفقًا لنوع الفريسة. وكان المصريون القدماء يخرجون لصيد السباع والفيلة والثيران الوحشية. واعتاد النبلاء أن يركبوا القوارب الصغيرة المصنوعة من البردي. وكانوا يخرجون في رحلة إلى أحراش الدلتا وكانت معهم أسرهم وخدمهم لصيد الأسماك والطيور.
وانتقلت الفروسية من عالم الحرب وعربات الحرب إلى عالم الرياضة ومطاردة الحيوانات البرية. وكان المصريون القدماء يقومون بإقامة سباقات للخيول بين الشباب الذين تمكنوا من البقاء على ظهر الخيول والتحكم فيها بدون سرج. ونظر المصري القديم إلى رياضة الفروسية بعين الاعتبار؛ إذ كانت رياضة الفروسية من الرياضات التي يجب ممارستها. وظهرت مناظر عديدة للفروسية على الآثار المصرية منها منظر على معبد رمسيس الثاني.
كانت لعبة رفع الأثقال واحدة من الألعاب التي عرفها قدماء المصريين. وكانت محاولة رفع كيس من الرمل بواسطة يد واحدة (رفعة النطر) والاحتفاظ بهذا الكيس عاليًا في وضع شبة مستقيم إحدى طرق رفع الأثقال. وكان يجب على اللاعب أن يظل محتفظًا بهذه الوضعية لفترة وجيزة.
لقد كانت لعبة القوس والسهم من الرياضات المعروفة لدى قدماء المصريين. وكانت غالبًا يتم تسجيلها على جدران المعابد. وتمتع الملوك والأمراء بالمهارة في إصابة الهدف بدقة. وكانوا أقوياء في شد القوس. وكانت هناك لعبة مصرية قديمة يقوم فيها لاعبان بالتنافس في شد الطوق بخفة حيث يقوم كل متسابق بتثبيت عصا بخطاف لإعاقة اللاعب الآخر ومنعه من خطف الطوق. وكانت تحتاج هذه اللعبة لمناورة بدنية حادة وقوة ملاحظة شديدة. وكان الأمر يحتاج إلى توازن لاعبين مقابلين لبعضهما وواقفين على كعب أرجلهما وأجسامهما مشدودة في وضعية مائلة بينما يمسكان بأيدي لاعبين آخرين. ويقوم الأربعة بالدوران مع المحافظة على وضعيتهم بتوازن تام وتوافق في الحركة.
وهناك منظر في «مقبرة مريروكا» يوضح فرقًا تقف في صفين متقابلين ويمسك فيها اللاعب الأول من كل فريق بيد الآخر ويشدان للخلف بعضهم البعض، بينما يقوم باقي أعضاء كل فريق بمسك بعضهما بقوة من الوسط مع محاولة شد الفريق الآخر للخلف.
وبجانب الرياضيات البدنية، عرف المصري القديم نوعًا آخر من الرياضة التي كان من شأنها أن تنمي مدراك العقل وأعمال الفكر. ويعود فضل اختراع لعبة الشطرنج إلى مصر القديمة حيث عثر في المقابر الفرعونية على مجموعة من أدوات اللعب التي تتشابه في أشكالها وطريقة لعبها وكان يطلق عليها اسم لعبة «سنت».
لقد كانت مصر الفرعونية سباقة في مجال الرياضة كما كانت سباقة في الكثير من المجالات؛ وذلك لأن مصر دومًا هي أول كلمة في كتاب التاريخ وأهم موقع في كتاب الجغرافيا.
مصر القديمة هي التي علمت العالم
العدالة
كان المصريون القدماء من أوائل الشعوب التي قدست الحق والحقيقة، وأعلت من شأن العدالة، واحترمت الصدق والقانون، وبنت حضارتها على النظام الكوني المستقر. ومنذ تاريخها المبكر، اهتدت مصر القديمة إلى معرفة وممارسة الحقيقة والعدالة والحق والقانون والنظام بمعناه العام، وأيضًا النظام الكوني المتوازن، والقيم المعنوية والمادية المبنية والمستمدة من هذه المفاهيم المطلقة ومقوماتها الإيجابية.
رمز المصريون القدماء إلى هذا كله بإلهة ذات طبيعة حساسة وصفات عظمى. وكان من صدق حسهم وحدسهم بها وتعظيمهم لشأنها أن أطلقوا عليها اسم «ماعت». ويعنى هذا الاسم حرفيًا «الصدق» أو «العادلة». واعتبروا هذه الربة المميزة ابنة لرب الأرباب، المعبود الكوني رب الشمس «رع». وصور المصريون القدماء عادة تلك الربة المهمة على هيئة سيدة تشير إلى العدالة في مفهومها العام، إما واقفة أو جالسة، تعلو رأسها ريشة ترمز إلى نزاهة الحكم والعدالة المطلقة وتمسك بيدها اليمنى علامة «عنخ» (وتعني «الحياة») التي كانت ترمز إلى الحياة في كل مناحيها وسياقها العام والخاص مما يعني أن الحياة لا تستقيم دون عدالة، وحملت في يسراها صولجانًا يرمز إلى الحكم الرشيد المستند إلى الحق والشرعية وتطبيق العدالة وسيادة القانون وتفعيل وإرساء الحق وتقديس الصدق.
ونظرًا لما جسدته تلك الربة «ماعت» من قيم نظامية وأخلاقية عدة، فقد جسدت المفهوم الذي دعت إليها آلهة مصر الكبرى المؤسسة والحامية للدولة المصرية من خلال تكليف الملك المصري الحاكم والذي كان ممثلاً لهم على الأرض بصفته ابن الآلهة وممثل الأرباب إلى تطبيق مفهوم «ماعت» كنظام كوني شامل يدور النظام السياسي والإداري، وغيره من النظم، في فلكه الرصين الذي لا يصيبه الخلل أبدًا. وأقام الملوك الفراعنة دولتهم العريقة والمستقرة على أساس متين من «ماعت» وبوحي وهدى منها وتحت إرشادها القويم. وكان هذا أحد أهم أسباب نجاح وتميز وازدهار الدولة المصرية القديمة ورأس النظام الحاكم المتمثل في شخص الملك الذي كان يتولى الحكم نيابة عن الآلهة باسم «ماعت»، وكذلك ممثلوه من كل رجال الحكم مثل الوزير والكهنة وكبار رجال الدين وقادة الجيش وحكام الأقاليم والقضاة وكل الموظفين العسكريين والمدنيين إلى أصغر موظفي الدولة المصرية العريقة في فنون الإدارة والتدوين والتراتب الوظيفي.
مفهوم العدالة
لقد كانت العدالة ذات مفهوم مهم للغاية في مصر القديمة؛ إذ كانت جزءًا لا يتجزأ من جميع جوانب المجتمع وثقافته. وكان القانون أساسًا في حياة المصري القديم فقد كانت مصر معروفة بمشروعيتها القانونية. واعتبر المصري القديم أن قرارات المحكمة لها أكبر تأثير على حياة المجتمع، وكان يجب معاقبة الخارجين على القانون بل وتقديم المساعدات للأطراف المتضررة، وعلى الرغم من تعيين أفضل الرجال من مختلف أنحاء مصر كقضاة فإنهم لم يصلوا إلى النهاية التي كانت في ذهنهم.
وكان الملوك الفراعنة مسؤولين في نهاية المطاف عن جميع الأمور القانونية في مصر. وكانوا في كثير من الأحيان يصدرون المراسيم ذات الطابع القضائي. وكان الوزير تحت الفرعون مباشرة، يعمل كيده اليمنى. ووضع الفرعون الوزير على رأس الإدارة البيروقراطية القوية في مصر. وكان مسؤولاً عن النظام القضائي للدولة، وفوّض الفرعون والوزير مسؤولياتهما القضائية والإدارية إلى المسؤولين المحليين.
ومنذ عهد الدولة القديمة (2686 – حوالي 2181 ق.م) كانت مصر تُدار من قبل مجموعة من الموظفين المتعلمين، وهم الكتاّب الذين اجتازوا المهمة الشاقة المتمثلة في تعلم القراءة والكتابة. وكان لطبقة الكتاّب دور أساسي في ازدهار مصر. كما تطور القانون المصري ببطء شديد، وكانت القوانين يمكن أن تظل سارية المفعول لفترات طويلة للغاية.
ومن هذا الوصف الواسع للهيكل الإداري لمصر، لا يمكننا استنتاج الطريقة التي كان يُمارس بها القانون في الواقع. وعلى الرغم من أن الحجم الهائل للمصادر المتاحة لنا، فإنه لم يتم بعد العثور على أي مثال للقانون المصري المقنن قبل عام 700 قبل الميلاد.
وفي غياب قانون مقنن موجود، يجب أن تستند معرفتنا بالقانون المصري في الواقع إلى وثائق أخرى متاحة، مثل العقود والوصايا وسجلات المحاكمة والمراسيم الملكية. وهذه للأسف، لم تنجُ بأعداد كبيرة. ولحسن الحظ، هناك استثناء واحد لهذه المسألة جاء إلينا من مجتمع العمال في الدولة الحديثة في دير المدينة. وعلى مدار ما يقرب من 400 عام، أنتج سكان هذا المجتمع عشرات الوثائق التي تم أرشفتها. وتمتد السجلات التي خلّفها أولئك العمال على مدار عصر الدولة الحديثة. وتقدم النصوص معلومات عن الحياة اليومية والتي ساهمت بشكل كبير في معرفتنا بالنظام القضائي المصري القديم.
ومن الصعب -استنادًا إلى نصوص مثل سجلات المحاكمة- أن نميز القانون الجنائي عن فروع القانون الأخرى. ولم يكن القانون الجنائي، معرَّفًا بوضوح داخل النظام القضائي المصري. لكن هناك طريقة أخرى لتحديد القضايا الجنائية بوضوح في النصوص القانونية من دير المدينة من خلال تقييم العقوبات التي تم تنفيذها في الحالات المختلفة؛ إذ لم يكن من الواضح أن كل التجاوزات كانت متساوية في العقوبة.
التكملة في العدد القادم