بقلم: الأديبة إخلاص فرنسيس
مشرّد الزمالك
الهواء مشبع بالغبار الذي يعمي الأبصار، ما إن تفتح فمك حتى تتناول وجبة منه.
هذا الانفجار الغباريّ لم يمنع هذا الفيضان من البشر السائرين في الشوارع إلا قليلًا، والباعة المتجوّلون والشحّاذون وماسحو زجاج السيارات كأنّهم تحدّوا في سبيل لقمة العيش مزاج الطبيعة وطغيان الرمل الصحراوي سعيًا وراء سراب الحياة منسيين مهمّشين على قارعة الزمن، لكنّهم عصب الحركة، واللوحة التي لا تكاد زاوية ولا شارع ولا دوار في المدينة تخلو منهم، فهم كالشجر الجاف المهمل على الأرصفة، والحتمية المفروضة كالموت في كلّ مكان دون السؤال: لماذا، ومن المسؤول؟ عيونهم لا تشبع من النظر الخائف المتوجّس في الوجوه حولهم.
عينان واسعتان اعترضتاني، وأنا أسير في الشارع، أحاول أن أهتدي إلى طريق المكتبة، يكاد يشقّ الزاوية الداكنة التي تكوّر فيها على نفسه في هيكل بشريّ يشبه الإنسان. رأس كبير دون ملامح، وجسد لم أعرف تفاصيله، يرتدي بنطلونًا ممزّقًا قصيرًا، يكشف عن ساقين عاريتين إلا من سخام السيارات والأرصفة.
تراءى لي أنه ينتعل صندلًا أسود، لكن حين اقتربت قليلًا توضّحت الصورة أكثر، لقد كوّنت له الأتربة والوحول حذاء طبيعيًّا يقيه سخونة الأسفلت صيفًا، والبرد شتاء.
تذكّرت المتنبّي وهو يصف قدمي كافور الأخشيديّ:
وتعجبُني رجلاكَ في النّعل أنّني … رأيتُكَ ذا نعلٍ إذا كنتَ حافيا
يضمّ بقوة ركبتيه المرتعشتين إلى صدره، مسندًا ذقنه إليها، وكلما اقتربت تكشفت لي الصورة أكثر، واتّضحت معالم وجهه. فكّان كبيران، وشعر أسود أشعث، رقبة تكاد لا ترى، وكأنّ ثقل هذا الرأس قد أنهكها، فآثرت الغوص في نوم عميق بين كتفيه.
رائحة العرق المقززة تسرّبت الى أنفي مع الهواء الذي أجبرت على استنشاقه، لم أعد أسمع صوت محدّثي على الهاتف الخلويّ.
خيّل لي أنّه يرى جلّادًا أمامه، يحاول أن يهرب منّي أكثر بالتكوّر أكثر داخل جسده، وقد برزت أظافره بشكل عنيف مخيف مدافع خائف بالدرجة الأولى.
تلفتّ حولي علّي أرى مَن خلف هذا الشابّ على قارعة الطريق تحت سطوة الطبيعة. حين أزفت بأطرافه في طبقة كثيفة من الوحل، والوحل يقيه شرّ عواملها، ملامحه تنمّ عن عمر لا يتجاوز ٢٥ سنة، هزيل البنية، عيناه السوداوان والعمش المتراكم منذ شهور يحتاج إلى صابون مطهّر وماء كثير كي تزيله.
عيناه تقدحان خوفًا، وتعريانني في وسط الشارع من إنسانيتي.
أحدّق به، يتعرّق جسدي، تدمع عيناي، خيالي الخصب سافر بي الى الشارع الذي قطعته منذ لحظات حيث الأمن والعساكر تحرس بيت أحد الوجهاء، يتراكضون ليفتحوا البوابات أمام سيارة المرسيدس الفارهة الخارجة، أخفي وجعي، يتسارع نبضي، أعتذر له عن ملامسة روحه المكبّلة داخل هذا الجسد.
شابّ لا أعرف أهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة أم أنّه ضحية الشوارع.؟
أفواج الذباب تنقضّ عليه، تبحث عن قوتها اليوميّ.
شعرت بأنّ روحي مكبّلة والرغبة في داخلي من الانتقام. لكن ممّن!؟ الآذان صمّاء في ضوضاء الأنانية.
كلّ الكون بيتك، وهذه الجدران أحنّ عليك من بني جنسك، ومن مواقف الأخلاقيين، وأصحاب المبادئ، والأعراف، والأصول.
عصفورٌ مهيض الأجنحة ينطّ فزعًا ووجعًا كلما طالعه وجه إنسان.
صغير دائما تحت ستارة الغبار الكثيفة، وهرمٌ مبكر، تنعكس سنوات عمره في مسامات جسده، وطبقات الأوساخ التي تعلوه.