بقلم: د. حسين عبد البصير
تم اغتيال الملك رمسيس الثالث بالفعل. وانكشفت المؤامرة. وحُقق فيها بأمر من الحاكم التالي الملك رمسيس الرابع. وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة.
أثبتت الدراسات الحديثة التي قام بإجرائها فريق دراسة المومياوات الملكية المصري برئاسة الدكتور زاهي حواس على مومياء رمسيس الثالث والمومياء غير المعروفة أن مؤامرة الحريم لاغتيال الفرعون قد نجحت بالفعل؛ وأنه تم قطع رقبة الملك من الخلف بسكين حاد.
من المعروف أن هناك مومياء لرجل غير معروف في المتحف المصري. وتعرف علميًا بـ»مومياء الرجل غير المعروف إي». ويشيع تعريفها بـ»المومياء الصارخة» أو «مومياء الرجل الصارخ». وأوضح الفريق المصري أن «مومياء الرجل غير المعروف إي» كانت لابن الملك، الأمير بنتاورت، الذي أُجبر على الانتحار وشنق نفسه بيده من خلال علامات الحبل الموجودة على رقبته.وتم عقاب ذلك الابن أشد عقاب بعدم تحنيط جثته ودفن جسده في جلد الغنم الذي كان يعتبر غير طاهر في مصر القديمة، وبناء على ذلك سيذهب إلى الجحيم في الآخرة.
تؤكد تلك الأحداث صدق الأساليب البلاغية التي تم استخدامها في نص المؤامرة الأدبي حين أشار إلى أن القارب الملكي قد انقلب، مما يرمز إلى وفاة الملك رمسيس الثالث وصعود روحه إلى السماء.غير أن المؤكد أن المؤامرة قد فشلت بدليل تولى خليفته الطبيعي وولى العهد رمسيس، الملك رمسيس الرابع لاحقًا، عرش البلاد بدلاً من أخيه بنتاورت المتآمر.
يجيء ذلك النص النادر الذي يذكر تلك الواقعة ضمن النصوص الرسمية. ويشير ذلك إلى تغير كبير حدث في مفهوم الملكية التي أصبحت هنا تميل إلى تصوير الملك في صورة بشرية إنسانية به ضعف مثله في ذلك مثل باقي البشر، ولم يعد ينظر إلى الملك على أنه إله يحكم على الأرض.
لا نعرف شيئًا عن مصير الخائنة الملكة تي. وإن كان ذكر التاريخ لقصة تلك الملكة الخائنة ومؤامرتها لقتل زوجها فاضحًا للغاية وكاشفًا لسيرتها غير المشرفة.ولقد ساهمت الغيرة بين نساء القصر الملكي والصراع على العرش في ذلك.
غير أن تلك كانت حالات قليلة في مصر القديمة التي كانت مثل أي مجتمع قديم له ما له من الصفات الحميدة وغير الحميدة.
مؤامرات الملكات في القصر الملكي!
كانت مصر القديمة كأي مجتمع إنساني تمور بحياة عارمة تتأرجح فيها حياة المرء بين المجد الذي لا يُضاهى والضعف الإنساني الموجود لدى البشر العاديين أجمعين.
فيذلك السياق الحضاري المتنوع، لا يمكن إغفال أو تجاهل حياة القصر الملكي- الذي كان يعيش فيه الملك مع أفراد عائلته والمقربين من حاشيته- بكل ما كانت تعج به من أحداث جسام ارتفع بعضها إلى درجات عظمى وانحط بعضها إلى منازل دنيا من الخيانة والخسة والدناءة. وغلبت الغيرة والطموحات والمؤامرات حياة القصور الملكية المصرية القديمة في بعض المناسبات، وامتلأت تلك القصور -التي كانت ملء البصر- بصراعات محمومة لا حدود لها، كانت أحيانًا معروفة للجميع وأحيانًا أخرى مكتومة تحت السطح. وكان من أهمها الصراع والتآمر على العرش والملك نفسه بين الزوجات الملكيات أمهات أولياء العهود الشرعيين وبين الزوجات الثانويات وأبنائهن الطامحين لحكم مصر بعد رحيل الملك الأب وصعود روحه إلى مملكة السماء واتحاده بالأبدية.
على الرغم من أن الوثائق الرسمية لم تكن تميل إلى تسجيل تلك الوقائع التي لم تكن تتناسب مع جلال وعظمة الملكية المقدسة في مصر القديمة، وتتناقض تمامًا مع الصورة المثالية التي كانت العائلة الملكية تتوق دومًا لإظهار نفسها عليها، يمكن استنتاج بعض من تلك الوقائع الاستثنائية التي وصلت إلينا في عدد محدود من الوثائق المصرية القديمة مثل بعض السير الذاتية التي لم يكن الهدف من ذكر تلك الأحداث عرضًا الطعن في الملكية المصرية المقدسة بقدر التأكيد على رغبة صاحبها في إظهار أهميته واستخدام الواقعة المذكورة دليلاً على تلك الأهمية المزعومة.
وُنِيِ الأكبر
من أوائل الإشارات إلى حدوث أمر غير عادي في حريم القصر الملكي، ما جاء في سيرة الموظف «وُنِيِ»، من الأسرة السادسة من عصر الدولة القديمة أو عصر «بناة الأهرام». وفيها يروى، ضمن الأفضال الملكية التي أنعم جلالة الملك «بيبي الأول» بها عليه كشخص موثوق فيه:
«عندما كانت هناك قضية سرية في الحريم الملكي ضد الملكة…، جعلني جلالته أذهب كي أحقق (فيها) وحدي. ولم يكن هناك كبير القضاة ولا الوزير، ولم يكن هناك مسؤول، فقط أنا وحدي؛ … ولم يحدث أبدًا من قبل أن حقق أحد مثلي في أمر من أمور حريم الملك؛ غير أن جلالته جعلني أحقق فيها».
لا نعرف على وجه اليقين التهم التي وُجهت إلى تلك الملكة؛ فلم يذكر «ونى» أكثر مما قاله ربما حفاظًا منه على هيبة الملكية المصرية المقدسة في ذلك العصر المبكر، وترك الأمر غامضًا يثير لعاب المفسرين للنص للأبد.
قد يكون الوزير شارك الملكة في التهمة المنسوبة إليها، ولعلها خانت الملك، أو أنها كانت تتآمر ضد إحدى زوجاته المحبوبات، أو ضد أحد أبناء زوجاته لمنعه من بلوغ عرش مصر، أو ضد الملك نفسه. وقطعًا للشك، أمر الملك «بيبي الأول» الموظف «ونى» بأن يحقق في الواقعة منفردًا ويرفع النتيجة إليه، ولم نعرف ما فعله الملك مع الملكة المتهمة.
في عصر الدولة الحديثة، عصر الإمبراطورية المصرية العظيمة في آسيا وأفريقيا، وتحديدًا في الأسرة العشرين وقُرب نهايتها، تآمر بعض من الحريم الملكي وآخرون ضد الملك رمسيس الثالث، وتم قتل آخر ملوك مصر العظام، في أواخر حياته.
نعلم عن تلك المؤامرة من المحاكمات التي تمت للمتهمين، وشارك في المؤامرة عدد من حريم القصر الملكي وبعض سقاة البلاط وحرسه وخدمه. ولم يعرف هدف هؤلاء المتآمرين. ولعل السبب الرئيس لتلك المؤامرة أن إحدى زوجات الملك الثانويات، وتدعى «تي»، بالتعاون مع بعض نساء القصر، خططت لاغتيال الملك؛ كي تضع ولدها «بنتاورت» على عرش مصر بدلاً من ولي العهد الشرعي (الملك رمسيس الرابع بعد ذلك)، كما سبق الذكر.
تم اغتيال الملك بالفعل. وانكشفت المؤامرة. وحُقق فيها بأمر من الملك اللاحق، وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة.
يجيء ذلك النص الجديد الذي يذكر تلك الواقعة المثيرة من الوثائق الرسمية. ويشير ذلك إلى تغير كبير حدث في مفهوم الملكية المقدسة التي أصبحت هنا تميل إلى تصوير الملك في صورة بشرية إنسانية به ضعف، مثله في ذلك مثل باقي البشر العاديين، ولم يعد ينظر إلى الملك على أنه إله يحكم على الأرض نيابة عن آبائه الآلهة المقدسين في أعلى عليين.
لنا تكملة في العدد القادم