بقلم: محمد منسي قنديل
مصر بلد شقي، تسير من مشكلة لأخري، وهي البلد الوحيد الذي تتراكم فيه المشاكل دون أن تنتهي، لم نعد نتباهى بطبقات الحضارة بوصفنا اقدم بلد في التاريخ، ولكننا نئن تحت طبقات من المشاكل، والسبب واضح وجلي، هناك مؤامرة عالمية تحاك ضد مصر، ليست واحدة، ولكنها مؤامرة مستمرة من اليوم الذي ولدنا فيه، ولن تتوقف حتى بعد أن نموت، هكذا يقول الخبراء والمحللون الذين يظهرون على شاشة التلفزيون، لعنة الله عليهم جميعا، لأنهم يخاطبون أسوأ ما فينا، يملئوننا بمشاعر بالاضطهاد ويهيئوننا للقيام بدور الضحية ، ضحية ضعفة وقليلة الحيلة، فما جدوى ان نقاوم دولا أقوى منا، ما جدوى ان نشحذ ارادتنا مادام هناك من يتربص بنا؟ هذا ما كانت تصنعه بنا أجهزة الاعلام طوال الفترة الماضية، وهذا ما يسوقه إلينا المسئولين دائما؟
لو عبرنا الحدود قليلا فسوف نجد دولة أخرى بجوارنا، اقل حجما وقدرا هي اسرائيل، تفرض سياستها على الجميع وتخالف القانون الدولي، وتتصدى بوقاحة لكل من يحاول أن يلفت نظرها أو حتى يتجرأ بالضغط عليها، لأنها تشعر بقوتها الداخلية، متحررة من كل عقد الذنب، الصواب هو فقد ما تعتقده والأخلاق هي ما يفيدها؟
نحن لا نواجه نقاط ضعفنا وهي كثيرة، وبدلا من أن نواجهها نلقي عبئها على الآخرين، نختلق انماط من المؤامرة غير موجودة إلا في عقولنا، ونكتشف في النهاية أننا فقط نتآمر ضد أنفسنا، واكبر المؤامرات التي نجيد حبكها هو الاهمال، عادة اصبحت متأصلة في سلوكنا، وتحولت عبر قرون من التخلف لتصبح أحدى الجينات التي نورثها من جيل لآخر، فعل يلازمنا اصبح في الاعمال الكبيرة والصغيرة، هو الذي اضاع منا نصر أكتوبر حين تركنا ثغرة واسعة تتدفق منها القوات الاسرائيلية إلى الضفة الأخرى للقناة وتحاصر الجيش الثالث بأكمله، وهو الذي جعلنا نهمل استغاثات راكبوا العبارة التي كانت تغرق في البحر الأحمر وتركنا مئات من اهالينا يلفظون أنفاسهم وسط الماء المالح، وهو الذي جعلنا نترك المباني الأثرية النادرة تحترق وعشرات القرى تغرق في السيول، ونحن نعرف جيدا مساراتها، الاهمال الاجرامي الذي جعلنا نترك أكثر من ألف مصنع معطلة العمال وآلاف على الرصيف، ونترك ارضنا الزراعية تأكلها المباني العشوائية بينما نستجدي طعامنا من الخارج، هناك اهمال بشع في كل منحى من حياتنا، وسأكتفي في هذا الحيز المتواضع بالحديث عن ثلاثة منها:
أولا: في ازمة الطائرة الروسية التي سقطت في سيناء منذ اكثر من عامين والتي قضت على صناعة السياحة الروسية في مصر، مازلنا نتعامل معها بنفس الدرجة من الاهمال، لم نتفهم جسامة الحادث، ولا كيفية رد الفعل المصاحب له، كل ما فعلناه هو انكار صلتنا به، وأنه حادث ارهابي، وهذا الامر مازال غير مؤكد حتى الآن، رغم أن الكثير من الدلائل تشير إلى ذلك، حتى روسيا التي كانت تشاركنا في الانكار اعترفت هي الأخرى أن طائرتها قد تعرضت لحادث ارهابي فج، وهذا تعبير رئيس وزرائها، ولكننا مازلنا نتباكى ونتحدث حول المؤامرة التي يحيكها الغرب ضد مصر، ويخرج المحللون في تبجح ليؤكدوا أن شرم الشيخ هي أكثر المدن تأمينا في مصر، حتى هذا لم يكن صحيحا عندما كان يسكنها الرئيس السابق، فقد وقع حادث ارهابيا في فنادقها في عز سطوة هذا الرئيس، وقد تراخت يد الامن عنها بعد أن رحل، واصبحت شرم الشيخ من اكبر المدن التي يروج فيها كل أنواع المخدرات والدعارة المستترة والتهريب، مناخ يساعد على القيام بأي فعل اجرامي، ويجب أن نواجه انفسنا بهذه الحقيقة ونبحث إن كان أحدا قد نجح في التسلل للمطار أم لا، الطائرة الروسية لم تطر إلا قليلا، لم يتح لنا الحظ أن تعبر اجوائنا وتنفجر في مكان آخر، لقد تناثر حطامها على مساحة تصل إلى 13 كيلومترا مكعبا، ماذا يعني هذا غير انفجارا داخليا، كيف حدث هذا، ومن المسئول عنه، وكيف نتمكن من الوصول إليه؟ هذا هو السؤال، الحديث عن أن الطائرة قديمة كلام فارغ، تماما مثل الحديث عن المؤامرة، فكل طائرة لها عمر محدد، وكل جزء فيها يتم تغيره وفق عدد معين من الكيلومترات، لذلك تظل الطائرة في حالة جيدة مادامت تطير، المشكلة في امخاخنا القديمة التي ترفض أن تعترف أننا اخطأنا ومازلنا تخطئ.
ثانيا: الاهمال المصري لم يعد خطأ ولكنها تحول إلى خطيئة، خاصة عندما نبرره بأشياء أخرى، في ازمة الأمطار الأخيرة التي اغرقت الاسكندرية والبحيرة وقراها وتسبب في خسارة آلاف الأفدنة من الاراضي الزراعية، لقد كشفت الأزمة أننا نعيش في القرون الوسطى، كل المرافق التي يمكن أن نواجه بها الطقس السيء قديمة ومتهالكة إن لم تكن موجودة اصلا، كل ما تم صنعه لإنقاذ الاسكندرية من الغرق كان في أيام الملك فؤاد، ايام الخواجات، وما فعلته الحكومات الوطنية المتعاقبة هي مجرد تصريحات جوفاء، يصاحبه نهم لا يشبع لسرقة موازنة الدولة، وفي ظل هذا العجز برزت مرة أخرى نظرية المؤامرة، وكان المتهم هذه المرة جاهزا، اعلن أن هناك أحدى المجموعات النوعية من جماعة الإخوان تقوم بإلقاء الاسمنت في بالوعات صرف المياه حتى تجعلها جميعا غير صالحة ، وتجعل الاسكندرية، المدينة التي كانت جميلة تغرق في شبر ميه، واعلنت الشرطة أنها قد عثرت على عصابة مكونة من 17 شخصا، وقد اعترفوا جميعا بجريمة سد البالوعات، ثم تبين بعد ذلك أن كل المصبات التي تؤدي للبحر مسدودة بالفعل من عشرين عاما، حين قام محافظ الإسكندرية بتوسيع شارع الكورنيش، ووضع كتلا خرسانية سدت كل فتحات هذه المصبات، وان مضخات رفع المياه التي يبلغ عمرها مائة عام قد تعطلت جميعا، وأن هناك عشرات من عربات الكسح موجودة ومخبئة ومهملة في أحدى الجراجات التابعة للمحافظة، وأن الموظفين والعاملين عليها كانوا أكسل من ان يحاولوا انقاذ مدينتهم، ولا أدري بماذا اعترفت عصابة سد البالوعات أيضا، وهل كانت هي أيضا السبب في اغراق عشرات القرى رغم انها لا توجد فيها بالوعة واحدة؟
ثالثا: محادثات سد النهضة التي لا تتوقف ولا تنتهي ولا تؤدي إلى اي نتيجة، كيف يمكن أن نتعامل مع قضية مصيرية كهذه بنفس الدرجة من الاهمال، يبدو واضحا قلة خبرة الفريق المصري بأولويات التفاوض، فهو يرى هدف المتفاوض الاثيوبي واضحا، فهو يراوغ ويسوف ويكسب المزيد من الوقت، والوفد المصري مستسلم وعاجز بينما يتسرب الوقت كالرمال من تحت أقدامه، لا يدرك أن كل وقت يضيع يعني دعامة زائدة من دعامات السد، وان موقفنا التفاوضي يزداد سوءا، ومع ذلك يمضي الوفد المصري ببلاهة في اللعبة إلى نهايتها، لا يستطيع أن يوقف الجانب الآخر، ولا يصل معه إلى أي نتيجة، ويكتفي في كل مرة بالموافقة على تحديد موعد آخر، براعة منقطعة من وفد لا يستطيع أن يهدد، او يوقف محادثات لا طائل منها، ولا يلجأ للتحكيم الدولي ويطالب في كل محفل دولي بوقف البناء، ويعلن أن ما يحدث غير قانوني وأنه اعتداء ضد الإنسانية ، وأنه يدفع حوالي 100 مليون آدمي للعطش، هذا الوفد الغريب لا يدرك أنه سيعطش معنا عندما لا نجد جميعا قطرة من الماء، لكنه مازال ينتظر في صبر عظيم حتى تحل بنا الكارثة.
ثلاثة مظاهر للإهمال، ثلاث كوارث، صناعة توشك على الانهيار، مدن غرقى، نهر مهدد بالتوقف، ولا شيء يوقظنا من غفوتنا، لا أحد يقودنا بعيدا عن المصير الذي ينتظرنا، كأننا نستعذب فكرة الانتحار الجماعي، ومع ذلك نتحدث عن المؤامرة.