بقلم: علي عبيد الهاملي
لا أعرف إن كانت الصدفة البحتة هي التي قادتني إلى قراءة كتابين ومشاهدة فيلم سينمائي عن بائعي الكتب خلال أقل من أسبوعين، ولكن أيا كان السبب فقد اكتشفت أن معارك بائعي الكتب متشابهة في كل مكان، حتى لو اختلفت الأزمنة والبلدان.
في الكتاب الأول، وهو رواية «مقتل بائع الكتب» للروائي العراقي سعد محمد رحيم، يتعرض بائع الكتب محمود المرزوق للاغتيال في وضح النهار بمدينة بعقوبة العراقية، العائد إليها بعد هجرة قسرية تنقل خلالها بين براغ وباريس، بدأت من ستينيات القرن الماضي، في مرحلة تاريخية اتسمت بمطاردة المثقفين وأصحاب الأفكار، والزج بهم في السجون وإعدامهم. ورغم عدم انتماء المرزوق إلى أي حزب سياسي في العراق حينها، إلا أنه كان واحدا من ضحايا هذه المرحلة، تعرض للاعتقال والسجن، ثم محاولة القتل، إلى أن انتهى به الأمر مهاجرا في براغ ثم باريس، قبل أن يعود إلى مدينته «بعقوبة» بعد احتلال العراق وسقوط التمثال، حيث لميتغير الحال إلا من سيء إلى أسوأ. وعندما بدأ الصحفي ماجد بغدادي تتبع آثار مقتل محمود المرزوق بتكليف من شخص مجهول، تكشفت لنا جوانب شخصية المرزوق عبر كثير من الوسائل والطرق والرسائل التي نسجت خيوطا تشكلت منها ملامح تلك الشخصية متعددة الجوانب والمواهب، وقادتنا إلى وطن تضيع ملامحه وتختفي تحت وطأة الاقتتال والدمار الذي خلفه الاحتلال.
في الكتاب الثاني، وهو قصة «مانديل بائع الكتب القديمة» لستيفان زفايغ، يصور لنا الكاتب النمساوي أثر الحرب، حتى في أولئك الذين لم يشاركوا فيها، من خلال بائع الكتب القديمة مانديل، المهووس بالكتب هوسًا جعله مرجعا لكل طالب وباحث في العاصمة النمساوية «فينا» وخارجها، يحفظ عن ظهر قلب عناوينها وأسماء ناشريها وأسعارها جديدةً ومستعملة، من دون أن يكسب من ذلك سوى ما يقيم به أوده. عاش مانديل حياته في شغل تام عما يجري حوله، حتى أنه لم يعرف أن النمسا التي يعيش فيها كانت تخوض حربا ضروسا ضد بلاده روسيا. الأمر الذي أوقعه في مشاكل لم يكن له قبل بها، هو الذي عاش حياته كلها منقطعا عن كل شيء إلا الكتب،لينتهي إنسانا بائسا يستحق الشفقة والرثاء.
في فيلم «متجر الكتب» المأخوذ عن الرواية التي كتبتها بينيلوبيفيتزجيرالد، تحاول الأرملة فلورنس جرين فتح مكتبة في المنزل القديم الذي حصلت عليه، وهو عقار رطب ومهجور ظل شاغرا لسنوات طويلة، بعد تجديده. في الوقت نفسه تخطط فيوليت جامارت، وهي من السكان المحليين المؤثرين، للاستحواذ على البيت القديم لمشروعهاالخاص، وهو مركز فنون محلي، على الرغم من أن العقار لم يعد فارغا. كان إدموند برونديش أفضل زبائن فلورنس، وقد بدأ يحس بمشاعر نحوها عندما بدأت تعرفه على المؤلفين الجدد. يعلمبرونديش بالتهديدات التي تواجهها فلورنسفيخرج من عزلته ويذهب إلى فيوليت طالبا منها أن تكف عما تفعله، ولكنه ما أن يخرج من بيتها حتى يتعرض لأزمة قلبية ويسقط ميتا. يتبنى ابن شقيق فيوليت، وهو عضو في البرلمان، مشروع قانون يمكن المجالس المحلية من شراء أي مبنى تاريخي لم يتم استخدامه لمدة خمس سنوات. يتم تمرير مشروع القانون، ويجري شراء البيت إجباريا، وتطرد منه فلورنس دون تعويض. مهزومةً تغادر فلورنس المدينة بالعبّارة وإلى جانبها حقائبها. على رصيف الميناء تقفالطفلة الصغيرة كريستين، التي عملت مساعدة لها في متجر الكتب فترة، ملوحةً بيدها، بينما كان الدخان يتصاعد من مكان ما في المدينة تعرفه جيدا خلفها، فتدركأن كريستين قد أشعلت النار في البيت القديم. يتحول المشهد إلى الحاضر حيث يتضح أن الراوية التي بدأ بها الفيلم هي كريستين التي كبرت، وتدير الآن مكتبة خاصة بها.
قبل أكثر من ثمانية قرون وقف الطبيب والفيلسوف والفلكي قاضي القضاة ابن رشد صامتا لا يحرك ساكنا، وهو ينظر إلى النيرانتشتعل في الكتب التي أفنى عمره في تأليفها، بينما كان أحد تلاميذه يقفباكيا منتحبا. نظر ابن رشد إلى تلميذه، ثم قال: «إذا كنت تبكي الكتب المحروقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة، وهي تطير لأصحابها».
ألم أقل لكم إن معارك بائعي الكتب متشابهة في كل مكان، حتى لو اختلفت الأزمنة والبلدان؟