بقلم / مسعود معلوف
منذ سنوات طويلة، اكتشفت في الشواطئ اللبنانية في القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط آبار غنية جدا بالبترول والغاز. أجريت الدراسات والخرائط التي تحدد أماكن وجود هذه الثروة تحت الماء، وتم تقسيمها على الخرائط الى “بلوكات” مرقمة، وبدأ الحديث عن كيفية استخراج البترول والغاز والإستفادة منه الى أن طرأت مسألة الخلاف مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية.
لقد سبق للبنان أن رسم الحدود البرية مع اسرائيل بعد انسحابها عام 2000 من الجنوب اللبناني وبمساعدة الأمم المتحدة، وقد سجل لبنان في حينه بعض الملاحظات على ما عرف بالخط الأزرق، ولكن الحدود البحرية التي تحدد المنطقة الإقتصادية الخالصة لكل من لبنان وإسرائيل لم يتم ترسيمها بعد، وهذه المنطقة الحدودية البحرية المتنازع عليها فيها، على ما يبدو، ثروات نفطية كبرى.
سعت الولايات المتحدة منذ مدة الى المساعدة في حل هذا النزاع عبر إرسال موفدين الى المنطقة للقيام بالوساطة وتقريب وجهات النظر، والموفد الحالي آموس هوكشتاين، وهو كبير المستشارين في وزارة الخارجية الأميركية عن أمن الطاقة، زار لبنان وإسرائيل مؤخرا وما زال يقوم بالمساعي لحل هذه المشكلة، خاصة بعد أن بدأت إسرائيل بالتنقيب الفعلي في المنطقة المتنازع عليها والمعروفة بحقل “كاريش” التي تدعي إسرائيل انها من ضمن منطقتها الإقتصادية الخالصة ولا يوجد أية حقوق للبنان في هذه المنطقة.
لا بد من التوضيح أنني لست خبيرا في ترسيم الحدود ولا خبيرا في موضوع الطاقة، ولكنني أقارب هذه المسألة من الناحية السياسية البحتة، ولا يسعني سوى تسجيل بعض الملاحظات الأساسية، وأهمها أن في إسرائيل موقف موحد حول هذا الموضوع بينما في لبنان نرى تناقضات في المواقف بين مختلف الجهات المعنية، إذ لا يوجد هيئة رسمية خاصة مسؤولة عن الحدود. من هذا المنطلق، حصلت في لبنان أخطاء متتالية بدءا من الموافقة السريعة او بالأحرى المتسرعة على الإقتراح القبرصي الذي تم تقديمه للبنان في مطلع هذا القرن وهو يحدد المنطقة الإقتصادية الخالصة بين البلدين والتي تطال الحدود البحرية مع إسرائيل.
بعد ذلك، شاهدنا مقترحات من جهات لبنانية رسمية مختلفة، كل منها تقدم مشروعا للحدود البحرية مع إسرائيل مختلفا عما تقدمه جهة أخرى. مع وجود إدارات لبنانية متعددة تتعاطى بهذا الموضوع، علما أن المفاوضات التي كانت تجري في الناقورة بين الوفد العسكري اللبناني الذي كان مكلفا بالتفاوض مع الوفد الإسرائيلي عبر الوسيط الأميركي توقفت منذ فترة، وأصبحت المفاوضات الآن في عهدة رئاسة الجمهورية بعد ان تولاها أيضا لتفرة طويلة رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي وضع ما سمي “مشروع إطار” غامض لا نعرف الكثير عن مندرجاته.
وفي إطار هذا التضارب في المواقف اللبنانية من موضوع ترسيم الحدود البحرية، حصل تعديل على الموقف اللبناني حيث تم اقتراح الخط 29 بدلا من الخط 23 الذي كان معتمدا في السابق، وصدر بموجبه المرسوم رقم 6433 الذي ما زال في أدراج رئاسة الجمهورية منذ أشهر ولم يتم إرساله الى الأمم المتحدة لتثبيت الموقف اللبناني من الحدود، ونسمع اتهامات بين الأفرقاء اللبنانيين بالتقصير، أو بالتفريط بالمصلحة الوطنية، أو حتى بالخيانة، ويبدو أخيرا أن موقفا لبنانيا موحدا صدر عن لبنان تم إبلاغه من قبل رئاسة الجمهورية الى الوسيط الأميركي هوكشتاين الذي نقله الى إسرائيل ولبنان ينتظر الجواب الإسرائيلي عليه.
في الوقت الذي يتخبط فيه لبنان بين هذا الموقف وذاك، بدأت إسرائيل بالتنقيب الفعلي عن الغاز والنفط في حقل “كاريش” المتنازع عليه عبر استقدام منصة لهذه الغاية، ووقعت منذ أيام اتفاقا مع مصر والإتحاد الأوروبي لتصدير الغاز والنفط الى أوروبا عبر الأنابيب المصرية اعتبارا من شهر أيلول/ سبتمبر القادم، وهي مستمرة في هذا النشاط بالرغم من تهديدات الأمين العام لحزب الله وإرساله ثلاث مسيرات فوق هذه المنطقة.
أطماع إسرائيل في المنطقة معروفة، والحاجة الى النفط والغاز الإسرائيلي في أوروبا واضحة جدا على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية ووقف تدفق الغاز والنفط الروسي نحو أوروبا وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ولا شك أن الولايات المتحدة يهمها كثيرا إيصال أكبر كمية ممكنة من هذه المادة الى حلفائها الأوروبيين لإبقائهم في التحالف ضد روسيا، ومن هذا المنطلق تجاوز الرئيس بايدن مواقفه الإنتخابية بجعل المملكة العربية السعودية دولة منبوذة وبمقاطعته لولي عهدها الأمير محمد بي سلمان، وهو سيحط في الرياض بعد أيام طالبا من المملكة زيادة الإنتاج والتصدير الى أوروبا، مثبتا بذلك أن سياسة الواقع ريالبوليتك (أو في هذه الحالة ريال بوليتيك) وسياسة المصالح هي أقوى من سياسة المبادئ.Realpolitik
ماذا يستطيع أن يفعل لبنان بانتظار انتهاء المفاوضات مع إسرائيل التي من المتوقع أن تطول نظرا الى أطماع إسرائيل ومواقفها المتصلبة من جهة، ونظرا أيضا الى بعض الشكوك في نزاهة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين كونه إسرائيلي الأصل، مولود في إسرائيل وخدم في الجيش الإسرائيلي من العام 1992 حتى العام 1995.
أولا: من الضروري تشكيل هيئة أو إدارة رسمية من اختصاصيين وممثلين من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية وإدارات أخرى تكون هي الممثل الوحيد للموقف الرسمي اللبناني في كل ما يتعلق بالحدود.
ثانيا: توضيح موقف رئاسة الجمهورية من مسألة عدم توقيع المرسوم 6433 وشرح أسباب عدم إرساله الى الأمم المتحدة، وذلك في سبيل وضع حد للتفسيرات المغلوطة والشائعات المسيئة للرئاسة.
ثالثا: اعتماد مؤسسة عالمية ذات خبرة بمسائل ترسيم الحدود البحرية وفقا لمبادئ المحكمة الدولية لقانون البحار، للقيام بالترسيم التقني لحدود لبنان البحرية مع إسرائيل، بحيث يستطيع لبنان الإعتماد على الخرائط التي ترسمها هذه المؤسسة لمفاوضاته السياسية مع إسرائيل، مما يعطيه موقفا قويا مبنيا على القانون الدولي.
رابعا: لا يوجد أي عذر منطقي أو قانوني لعدم قيام لبنان بالتنقيب عن النفط والغاز في المناطق غير المتنازع عليها، وكل تأخير في المباشرة بهذه الأعمال يزيد من اتهام السلطات السياسية بالفساد والتفريط بحقوق الشعب اللبناني، إذ هنالك اتهامات واضحة للطبقة السياسية بوجود خلافات بين قادتها على تقاسم عائدات النفط فيما بينها، خاصة في ظل الأزمة المالية والإقتصادية والحياتية التي يعاني منها لبنان في الظروف الحالية.
ما زال أمام الرئيس اللبناني ميشال عون أشهر قليلة قبل انتهاء مدة رئاسته، وقد تكون مسألة إنجاز ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والمباشرة باستخراج الغاز والنفط اللبناني فرصته الأخيرة للتعويض بعض الشيء عن السلبيات الواضحة التي حصلت في عهده وإن لم يكن هو نفسه مسؤولا عن قسم منها. لبنان بحاجة ماسة الى تصدير هذه المادة التي قد تساعده على تخطي أزمته الإقتصادية الخانقة، ووقت التنفيذ هو الآن وليس غدا.