بقلم: د. خالد التوزاني
يثير موضوع الحرية اليوم جملة من الإشكالات، يعود سببها إلى الجهل بمعنى الحرية، فهذه الكلمة مثل غيرها من الألفاظ المنتشرة في مجالات الإعلام والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، تعرضت للمسخ والتشويه وتبديل معانيها، من معنى الحر أي النقي والصّفي الذي اختار معدنه وأظهر اختياره للناس في سلوكه، إلى معاني دخيلة على المفهوم كفعل ما أريد أو جسدي مِلكي أو أنا وبعدي الطوفان أو هذه حياتي.. وغيرها من العبارات التي تكشف عن تصور معين للحرية، بناء على مرجعية ما، وبالنظر إلى أنَّ أهمية هذا المفهوم في السياق الدولي الجديد القائم على نوع من الهيمنة الثقافية بدل الهيمنة العسكرية، التي كانت سائدة في السابق، هناك حاجة ملحة لتوضيح معنى الحرية وخاصة ضمن الثقافة العربية والإسلامية.
على الرّغم من غياب لفظ “الحُرِّية” في القرآن الكريم باعتباره الكتاب المؤسِّس للقيم الأخلاقية العُليا، إلا أنَّ ذلك لم يكن يعني غياب ممارسة الحرية، فهذا اللفظ يحضر عملياً من خلال ألفاظ “الحرّ” و”التحرير” و”المحرر”، مركّزاً على مبدأ تحرير الرِّقاب، في أكثر من سياق، سواء تعلّق الأمر بالكفّارات أو تعلّق بالحَثّ على التقرّب إلى الله، وعلى تحصيل الثواب الإلهي، والتكفير عن الخطايا، قال تعالى: “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ” ، وفك الرقبة أو تحرير الرقاب ، هو إخلاء السَّبيل للعبد من الرّق، بجعله حرّاً طليقاً له ما للأحرار من حقوق وواجبات .
إنَّ الحُرِّية ممارسة وليست مجرّد تنظير وتوجيه وإرشاد، ولذلك اهتم الدِّين بتحرير البشر من الاستعباد ومن الإكراه والتَّسلّط، فلم يكن خطاب القرآن الكريم قائماً على المفاهيم والمجرّدات العقلية، وإنما ركّز على الفعل الإرادي، الذي يمارس التَّحرّر، وبذلك ينقلنا القرآن الكريم من المفهوم المجرّد للحريّة إلى التّحرير باعتباره البُعد الحقيقي والعملي لها، وذلكَ لأنَّ إطلاق لفظ الحرّية في وسط عقلي جاهلي لا يمكن فهمه إلا على نقيض معناه الأخلاقي، أي نفي المسؤولية، أو فهمه على أساس الفوضى والتحلّل من كل قيمة أو قاعدة أو قانون ، الشيء الذي يؤكد أنَّ الحرية مسؤولية، وليست فعل ما يريد الإنسان بالمطلق، وهذا إشكالٌ ناقَشَتَهُ الفلسفة وعلم الكلام، وكان من نتائجه أنَّ الحريّة شُعورٌ سيكولوجي، ويعني “شُعورنا بالالتزام وبما يترتّب على أفعالنا من زيادة ونقص في قيمتنا الخُلقية، والواقع أنَّ الشُّعور الخُلُقي إذ يفرض علينا التزامات معيّنة، إنما يُجبرنا بذلك على أن نتحمّل مسؤولية أخلاقية بإزاء ذواتنا، ونحن لا نكون ملزمين أخلاقياً، إلا إذا كانت أفعالنا متوقّفة علينا، وهذا معناه أننا أحرار فعلا” ، فالشعور بالالتزام والمسؤولية واحترام الواجب، هو عين الحرّية، إنها وثيقةُ الصِّلةِ بالأخلاق، فلا حُرّية ولكن تحرّر، أيْ التَّحرّر والسَّعي نحو الكمال، بالتَّحرّر الكامل من القيود الخارجية والداخلية نمتلك رُوح الحُرِّية الحقيقية ، وبذلك نفهمُ جَلِيّاً لماذا غابَ لفظ الحُرِّية في القرآن الكريم، وحَضَرَ بديلاً عنه لفظ الحرّ والتَّحرير والمحرَّر.
يتبيّن أنَّ الحرّية باعتبارها قيمة أساسية في حياة الإنسان، لم يكن المقصود منها إطلاق الحبل على الغارب، ولا ترك الإنسان منقاداً لهواه وأنانيته على حساب مصالح غيره، وأنَّ سبيلَ التَّوازن بين حرّية الفرد وحقوق المجتمع، هو نظام أخلاقي متكامل، يضمن للجميع حقّه في التّحرّر من أيّ ضغط أو إلزام أو تقييد أو قهر، ولعل ذلك ما تسعى لتحقيقه الشرائع الدينية والقوانين الوضعية، فالحرّية لم تكن مَسّاً بحقوق الآخرين، ولذلك من غير المنطقيّ السماح للمفسد بنشر فساده، ولا المصلح بإلزام الناس اتباعه، فالاختيار شرط للحرية، ولكن مع الشُّعور بالالتزام والأمانة والمسؤولية، وهذه نتيجة لم يكن ينجح القانون دائماً في بلوغها، بسبب احتيال بعض الناس على القانون، وقدرتهم على الانفلات من العِقاب، ولكن في وجود الأخلاق يكون الوازع الدّيني قوياًّ فيشعر المرء بالحياء، ويستحضر مراقبة الضمير وسُلطة الوعي العُليا، وبأنَّ الله يراه، وهذا تماماً مقامُ الإحسان في الفكر العِرفاني، فهو مؤهّلٌ ليشكّلَ البديل الحقيقي لكلّ تحرير ونقلٍ لوضعية الإنسان من الحالة العادية، إلى حالة إيمانية عميقة، لا يحتاج معها المرء إلى حارسٍ أو رادعٍ خارجيّ، وهو ما يجعل هذا الشَّخص مَصْدَراً للأمن ومُصَدِّراً له، وهذا المعنى ورد في الحديث الشريف: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: منْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” .
من الأكيد أنَّ “الأخلاق بحاجة إلى سُلطة أوسع من السُّلطة القائمة على الدّين” ، وهي سُلطة القوانين، والعقد الاجتماعي، ولذلك فالحرية قضية نفسية واجتماعية، تتجاوز رغبات الذات الفردية إلى احترام القوانين المؤطّرة للجماعة، وأن يتوافق الإنسان مع ضميره الأخلاقي، وهذا منتهى الشعور بالحرّية ودليلٌ على الصِّحة النفسية، ولذلك يرى علماء التزكية أنَّ “أهم مقومات الصِّحة النفسية تكمن في توافق الإنسان مع ربه وليس مع هوى نفسه، وبالتسليم لإرادة خالقه، وليس لمراد هوى نفسه، فيستشعر حقيقة الصّحة والسّلامة النَّفسية عن طريق التّحرّر من التّعلّقات القلبية، ومن ثَمَّ، فإنَّ العبدَ لا يكون إلا بين خيارين: إمَّا أن يكون عبداً لله فيتحرّر من كلّ شيء، أو يكون عبداً لغيره فيستعبده كل شيء” ، وهنا يكمن شقاؤه وتعبه، فتتعب نفسه وبدنه في تحقيق آماله التي لا تنتهي، فيتكدّر لفواتها، ويصيبه الضّنك والضّيق لفقدها، لقصوره عن بلوغه مراده .
وهكذا، عندما يتوجَّهُ المرءُ لخالِقِه يُصبحُ حُرّاً طليقاً، لأنَّ تمامَ الحُرّية في إخلاص العُبودية لله، ولم يرتبط الإنسان بشيء إلا كان عبداً له، بما هو إحساسٌ بالخوف على فقدانه، فكان ذلك دافعاً لقلقٍ دائمٍ وانزعاجٍ مُقيم واضطراب وتشويش.
ولفهم الحرية في سياق مجتمعي معين، نختار المغرب باعتباره أحد الدول العربية والإسلامية التي ترى في الحرية ثابتاً من ثوابتها الدينية وشعاراً وطنياً بارزاً، له انعكاسات على مجالات نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية أيضاً.
إن رؤية المغاربة للحرية كما هي في معناها الأصيل الذي ورد في القرآن الكريم، وفي علم الأخلاق، هو الذي جعل سكان هذا البلد يقبلون الآخر المختلف عن رضا ومحبة، ودون أي انزعاج أو شعور بالخوف، بل تعاملوا مع الآخر باعتباره مواطناً مغربيا، ما دام يحترم الثوابت الوطنية التي تجمع كل المغاربة في أرض للجميع، وملك للجميع، فكان ذلك التعايش والتسامح في صورة متينة، قائمة على نوع من التماهي والتداخل والتكامل بين مكونات الشعب المغربي، دون أي تمييز بين أفراده، وهو ما أسهم في حماية وحدته الترابية وخصوصياته الحضارية والثقافية.
في سبيل هذه الحرية، خاص المغاربة حروباً كثيرة عبر أقدم العصور، نظراً للموقع الجغرافي المتميز للمغرب فقد كان دائماً محط أنظار العالم وخاصة القوى العظمى والإمبراطوريات التي كانت ترى في المغرب منطقة جيوستراتيجية مهمة جداً فتسعى تلك القوى لاحتلال المغرب وضمه إلى أراضيها، نستحضر الإمبراطورية الرومانية والفينيقية وغيرها مما وصلوا إلى المغرب، وبقيت إلى اليوم آثارهم شاهدة عليهم، مدينة وليلى وغيرها من المآثر، وفي كل مرة يكتشف العلماء أثراً من آثار الماضي، أقدم إنسان في الأرض، ثم خلال الشهر الحالي تم اكتشاف أقدم حِلي استخدمها الإنسان في الأرض، فموقع المغرب لعب دوراً في ميل المغاربة إلى الحرية ومقاومة الاستعباد والاستعمار والاستغلال.. ولقبهم دالٌ عليهم؛ الأمازيغ تعني الأحرار، والأحرار تعني عدم التبعية وتعني الاستقلالية، أي النموذج المتفرّد الذي لا يقبل أن يكون تابعاً، وإنما قائداً أو نموذجاً يُقتدى به، ولذلك المغرب كان في كثير من الحقب التاريخية إمبراطورية عظمى تَهابُها الدول؛ نستحضر معركة وادي المخازن، ونستحضر قراصنة المغرب في الرباط وسلا، كيف كانوا يرعبون الأعداء الذين يبحثون عن منفذ لاحتلال الشواطئ المغربية، نستحضر أياً الأبراج والحصون التي توجد في جميع المدن المغربية، بل إن بعض أعالي الجبال فيها قلاع وحصون عسكرية لرد الهجومات المحتملة، وهكذا كان دفاع المغاربة عن الحرية دفاعاً مستميتاً، إن شعار الموت أو الشهادة، أصيلٌ في حروب المغاربة عبر التاريخ، فهم لا يرضون بالذل والمهانة، ويفضلون الموت على الإهانة، وهذه الروح العالية والطموح للحرية والعزة والإباء والنفور من الذل والصّغار، قديمة جداً وتعود لفترة ما قبل الإسلام، ولكن الإسلام جاء لتقويتها، فقد وجد كثيراً من مكارم الأخلاق والصفات كالكرم والعدل والنفور من الظلم وطلب العزة والشهامة والمروءة.. وهي أخلاق من بقايا الديانات القديمة، فكان تتميم مكارم الأخلاق بزيادة صفات أخرى نبيلة كالإيثار والعفو والإحسان إلى المسيء.. والعدل مع العدو، ولذلك لخَّص النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام في الأخلاق: فقال: إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق.
ولذلك كان المغرب ذلك الاستثناء الذي لم تحكمه الإمبراطورية العثمانية، وعجزت عن احتلاله القوى العظمى، ولم تدخل إليه فرنسا، إلا تحت مُسمى الحماية، وبشروط تتمثل في ضمان الأمن للمغاربة وتطوير البنية التحية من طرق ومصانع وإدارة.. ولذلك سرعان ما انتفض علماء المغرب ورفضوا تلك الحماية بسبب إخلاء فرنسا بتعهداتها، وهي احترام حرية المغاربة، المغاربة ليسوا عبيداً ، إنهم يختارون ملكهم، على أسس ومعايير دقيقة يصعب وجودها في أكثر من شخص، إذ يركّزون على الولاية والصلاح والشّرف، العِلم والأخلاق والأمانة، ويظهر ذلك في اختيارهم للمولى إدريس الأول ليكون خليفة عليهم ويحكم بينهم بالحق، ارتضوه أميراً لامتداد نسبه الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، توقيراً وتعظيماً للجناب المحمدي، ثم لما عنده من علم وصلاح، فالمولى إدريس كان سلطان الأولياء في المغرب، وإلى اليوم يحتفظ المغاربة بكثير من الإجلال والتقدير لهذه الشخصية النادرة، ولذلك كانت البيعة الشرعية رابطاً تتوارثه أجيال المغاربة جيلا عبر جيل، وتتجدّد في عيد العرش وفي الأعياد الوطنية والمناسبات الدينية، حرصاً على حماية هذه الحرية في الاختيار وفي العيش ودفاعاً عن الحرية بأن تبقى مُصانة من كل اختطاف أو مسخ وتشويه، وبهذه المعاني تمثل الحرية مكوناً من مكونات الهوية المغربية، لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، ولكنها حرية تتكامل مع باقي الثوابت الأخرى الدينية والوطنية ولا تتعارض معها، وهي حرية ثابتة تمنح المغاربة سيادة تامة وكاملة على أراضيهم شرقاً وغرباً ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب دفاعاً عن الأرض والملك والهوية، وهو ما لخصه شعار المملكة: الله الوطن الملك، ولذلك تمثل أعياد الاستقلال في المغرب امتداداً للكفاح من أجل الحرية، وامتداداً طبيعياً للدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية بحمايتها من كل المناوشات والمناورات والمكائد التي تحاول اختراق الصحراء المغربية أو تحويل الأنظار في اتجاه آخر غير سيادة المغاربة وحريتهم في أراضيهم..