بقلم: د. خالد التوزاني
ضمن فعاليات الموسم العلمي لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس للعام الدراسي 2023-2024، وبرعاية الأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي، نظمت الجمعية المغربية للدراسات الأكاديمية العربية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس، لقاء علمياً شارك فيه نخبة من الباحثين والأكاديميين، لمناقشة المنجز النقدي والعلمي للدكتور عبد الكريم الرحيوي،وذلك ضمن المجالس الأدبية الجامعية، التي تحتفي بالعلماء النجباء وتولي عناية بآثارهم ومنجزاتهم.
انطلقت فعاليات هذا المجلس الأدبي، صبيحة يوم السبت 17 فبراير 2024، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية مدينة فاس، التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله،وقد كان ضيف هذا المجلس في دورته الثالثة، الأكاديمي المغربي الناقد الدكتور عبد الكريم الرحيوي، حيث تناول منجزه العلمي بالدرس والتحليل والمناقشة نخبة من الباحثين والنقاد، وتم تكريمه في نهاية اللقاء، بدرع التكريم وشهادة التقدير والامتنان، تعبيراً عن عميق الشكر والإجلال لجهوده الرائدة في الأدب والنقد والتربية والتحقيق والنشر والتأليف، وذلك على امتداد أكثر من عقدين من الزمان، راكم خلالها هذا الباحث المجتهد عدداً كبيراً من المؤلفات الفردية والجماعية فضلا عن المقالات العديدة المنشورة في المجلات المحكمة وإلى جانب مشاركاته الواسعة والمتعددة في المؤتمرات العلمية داخل المغرب وخارجه، مما جعل اسمه بارزاً في الساحة الثقافية العربية.
تَبرُزُ شُمولية البُعد الأكاديمي في أعمال الدكتور عبد الكريم الرحيوي من خلال تنوع مجالات اهتمامه، فقد كتب في التراث وفي البلاغة، وبرع في تحليل الخطاب، كما عمل في التحقيق والتدقيق، وتنوعت النصوص التي قاربها بين القديم والحديث والمعاصر، وأيضاً انفتح على نصوص موازية لها صلة بالفنون والرقميات، وقدّم دراسات في قضايا التربية والمناهج.
ومنجهوده في تلقي النص الشعري العربي المعاصر بين المشرق والمغرب، دراساته لقصائد الشاعر الإماراتي الدكتور مانع بن سعيد العتيبة، والشاعر المغربي الدكتور أحمد مفدي، وهما من شعراء الطليعة ورواد الأدبية العربية، حيث استطاع الكشف عن خصوصيات كل تجربة على حدة، مُخصّصاً لكل شاعر كتاباً خاصا، الأول بعنوان: المسجد وشعرية القيم لدى الشاعر الدكتور مانع سعيد العتيبة، وصدر ضمن منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، في طبعته الأولى عام 2023. والكتاب الثاني حول منجز الشاعر المغربي معالي الدكتور أحمد مفدي، عنوانه: دلائل الإبداع؛ أبحاث في إبداعات أحمد مفدي الشعرية والنقدية، وصدر عن منشورات دار الأمان، الرباط، في طبعته الأولى 2018. كما كتب عدة مقالات نقدية حول أعلام وقضايا وظواهر أدبية وثقافية نشرها في عدد من المجلات العربية والأجنبية.
إن استحضار ما أنجزه الناقد الدكتور عبد الكريم الرحيوي من دراسات في النقد الشعري وتحليل الخطاب سواء القديم أو الحديث والمعاصر، يكشف عن ناقد أكاديمي متمرّس يمتلك رؤية منهجية دقيقة، تنم عن مؤهلات علمية جديرة بالتقدير والاهتمام، تضع أعماله ضمن دائرة رواد الثقافة العربية،والتي تعكس عمق الفكر النقديلدى هذا الباحث، وسعة اطلاعه وامتلاكه لأدوات التحليل ومناهج النقد المعاصر فضلاً عن الذوق والموهبة، ويتجلى ذلك في منهجه النقدي المتوازن، وفي نحته لعدد من المصطلحات النقدية التي تفرد بها، وكان له فضل السبق في إبداعها والتنظير لدلالاتها وسياقها، وأيضاً في توظيف لغة نقدية تجمع بين بلاغتي الإمتاع والإقناع؛ حيث عمق الفكرة، وجمالية الصياغة، وبساطة العبارة، ووضوح المعنى، مما جعل مؤلفاته ومقالاته قابلة للتداول على أوسع نطاق، فهي تُخاطب جمهور المتخصّصين وتنفتح على عموم القراء منالمهتمين بالثقافة العربية، وتبدو هذه السمة واضحة في جل أعماله العلمية؛ حيث الدقة والشمول ولغة النقد الماتعة والمفيدة، ترتقي بالكتابة إلى مستوى الصناعة الأدبية، وهو ما جعله ينجح في نشر العديد من مقالاته النقدية في مجلات عربية عريقة وذائعة الصيت، بوّأته مكانة مرموقة بين نقاد العالم العربي والإسلامي.
وتتمثل جماليات الرؤية الأكاديمية والعلمية عند الناقد الدكتور عبد الكريم الرحيوي في العناية الفائقة باللغة، انتقاء الكلمات، فهو في دراساته كان عمله كحال صائغ الذهب، الذي يتناول القطعة الخامة بعد إذابتها ثم يعيد سبكها على شكل حلية امتازت بالرؤية الفنية والصياغة المتقنة، أي أنه يجمع الصنعة النقدية والموهبة الفنية، الصنعة تتمثل في إتقان توظيف الأدوات المنهجية، والموهبة، تتمثل في الذوق الفني ورهافة الحسّ، وهو ما جعل قراءاته للنص الشعري قريبة جداً من النص الشعري، ليس بعيداً عن الشعر إلا بقول الشعر، مع أن هذه ليست بمزية في النقد، وإنما النقد ينبغي أن يتخلص من المشاعر والعواطف وأن يفحص النص كالطبيب أو الجيولوجي أو الصيرفي ليميز الطيب من الخبيث ولينتقي من النصوص أكثرها صِحّة وسلامة، وأكثرها قوة وصلابة، ولعل هذا هو سر انتقاء نصوص رائدين من رواد الفروسية الشعرية المعاصرة، العتيبة ومفدي.
وكذلك نجد في أعماله البحثية والفكرية حضوراًلفلسفة وراء النقد والكتابة عموماً، فالعمل الأدبي أو النقدي إن لم تكن وراءه خلفية فلسفية، يصبح نوعاً من الإنشاء أو كتابة رأي أو نقد انطباعي لا يتأسس على مرجعية ومقصد.. وهذا الحضور الفلسفي فرضته طبيعة النصوص الشعرية التي يختار تناولها، وأيضاً طبيعة الموضوعات والظواهر التي يبحث فيها، غالباً ما تكون صعبة التناول وتقتضي رصيداً من الثقافة الموسوعية، ذلك أن الأبيات الشعرية تقوى وتنشط إن عولجت برؤية فلسفية، فعلى سبيل المثال: أبوالطيب المتنبي، قبل أن يكون شاعرا، كان فيلسوفا في رؤيته للمشاهد التي مرت عليه أو التي مر عليها، لذلك جاءت صيغته الشعرية صيغة براقة لا يخفت بريقها مع مرور الأيام؛ لأنها تحمل أمثالا وحِكما صِيغت تحت مصباح الفلسفة. كذلك العديد من النصوص التي كتب عنها الدكتور عبد الكريم الرحيوي وقام بتحليلها، وظف في دراساته رصيداً محترماً من الفكر والفلسفة والتاريخ واللسانيات.. وكل ما يخدم فهم النص.
وقد كان مبرمجاً في هذا المجلس الأدبي، أن يشارك الأديب والناقد الدكتور عبد الفتاح الإدريسي البوزيدي، بمداخلة علمية حول الجهود التربوية والإدارية للدكتور عبد الكريم الرحيوي، لكن تعذر عليه الحضور بسبب وعكة صحية ألمت به، وقد اعتذر معبراً عن التهاني للمكرم قائلا: “تكريمك فرصة للوقوف على عمق إنجازك، ونعومة لغتك، لاستشراف آفاق البحث العلمي الرصين. بارك الله في جهودكم سيدي عبد الكريم”. كما لم يتمكن من الحضور الدكتور هشام بلحاج، وهو صديق المكرم أستاذ الدراسات الفرنسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، يقول: “تكريم مستحق لباحث متمرس ورصين ومعطاء. دمت موفقا صديقي العزيز،للأسف لم تسنح لي فرصة حضور هذا اللقاء الهام، وذلك لتواجدي بعيدا عن مدينة فاس”.
يقول الدكتور عمر قلعي، وهو أحد المشاركين في الندوة التكريمية: “كانت جلسة علمية ماتعة في حضرة أستاذنا الفاضل سيدي عبد الله بنصر العلوي، ورفقة الأساتذة الأجلاء: سيدي عبد الله الغواسلي المراكشي، وسيدي أحمد الدويري، وسيدي محمد يعيش. وقد أفاض علينا الأستاذان الجليلان، سيدي مصطفى بوخبزة وسيدي خالد التوزاني، بواسع علمهما في مقاربة أعمال المحتفى به، فضلا عن متعة الاستماع إلى الحضور الكريم، الذي جمع نخبة من الباحثين والمهتمين بالأدب والنقد.دامت لك المسرات سيدي عبد الكريم الرحيوي، وأنعم الله عليك من واسع فضله وعلمه، آمين”.
ومباشرة بعد اختتام الندوة التكريمية، ونشر صور المجلس الأدبي في مواقع التواصل الاجتماعي، تفعل عدد كبير من محبي الدكتور عبد الكريم الرحيوي، وسارعوا إلى تقديم التهاني والتعبير عن الفرح بهذه الالتفاتة الطيبة، التي تدل على وفاء الجامعة المغربية لأعلامها ورموزها، وقد توالت التهاني والتبريكات من المشاركين في المجلس، لتعبر عن الألفة التي تجمع هذا الباحث برفاقه من الباحثين، وعمق التواصل العلمي الوثيق، وهو ما أشار إليه الرئيس المؤسس للجمعية المغربية للدراسات الأكاديمية، الدكتور عبد الله بنصر العلوي، عندما علّق على رسالة الشكر التي وجهها المكرم الدكتور عبد الكريم الرحيوي لكل الجهات المنظمة لهذا الحدث الثقافي، يقول: “أسعد بهذا الكلمات الناعمة التي تحتفي بالمجلس وبالمحتفين بهم..وما يجمع بين الباحثين من ألفة..ومن تواصل علمي..الشكر لكل من أسهم في تنوير المجلس..”.
وقال الأكاديمي المغربي الدكتور مصطفى بوخبزة مخاطباً المحتفى به الدكتور عبد الكريم الرحيوي: “قدّر لي أن أكون ممن أسهم في هذا التكريم الباذخ وإن كان إسهاما متواضعا سوف لن يوفيك حقك.
هذا، وما أراني بحاجة إلى أن أفيض في ذكر مباهج هذا اليوم الأغر، فقد كفانا مؤونة ذلك مما جادت به كفاءات ثلة من الزملاء الدكاترة، ونخبة معلومة من أستاذتنا الدكاترة الذين نلنا حظا وافرا من المعرفة والعلم على أيديهم.أحببت أن أقول إن تكريمهم كان مَجْلىً لأعمالكم الأكاديمية التي كنتم – دوما – تتوقعون أن تكون أنيقة مصقولة، وفي لغتكم الهادئة التي لا يسمع لها الصوت أحيانا والهمس الممتع البعيد أحيانا أخرى.لقد أيَّدَتْ مؤلفاتكم وأبحاثكم الرصينة المكانة المكينة التي توقعها لها عارفوك.وإن لكم من الله على عملكم ثواب ما جهدت وجزاء ما انْتَوَيْتَ”.
وحملت كلمة الدكتور عبد الكريم الفرحي طابعاً حميمياً، في التعبير عن الاعتزاز بصداقة الناقد الدكتور عبد الكريم الرحيوي، يقول: “صديقي الأغر الأبر سيدي عبد الكريم الرحيوي، أنتم أهل لكل احتفاء. فقد راكمتم من الإنتاج الأدبي والنقدي والتربوي ما تستحقون بإزائه التكريم. هي لحظة عرفان في حضرة وجوه نيرة صفية وفية لشخصكم ومنجزكم… لا شك في أن الاحتفاء بمنجزكم يستبطن في أحد أوجهه دلالة التشريف، لكنه في الوجه الثاني للمرآة يضاعف من مسؤولية التكليف. دام العطاء موصولا، ولا جف معين الارتواء”..
أما الشاعر المغربي الكبير الأستاذ الدكتور محمد يعيش، أستاذ الدراسات النقدية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، فقد عبر في كلمته عن تقدير كبير يكنّه للمكرّم، يقول: “سيدي عبد الكريم الرحيوي..أعمالك تتميز بالعمق والتنوع والجدية في طرح القضايا.وإني لأهنئك على ما حباك الله من صفات العالم، وأخلاق الباحث، أما تكريمك فأنت أهل له، وجدير به. وإنك عندي تستحق أكثر من تكريم، من أكثر من جهة.دمت متألقا متوهجا.”
وكان قد عبر الدكتور عبد الكريم الرحيوي في رسالة شكر لجامعة سيدي محمد عبد الله، بفاس، والجمعية المغربية للدراسات الأكاديمية، والمشاركين في الندوة التكريمية، عبّر عميق التقدير والامتنان، واعتبر هذا التكريم بمثابة اعتراف وتحفيز لمواصلة الجهود، ومما ورد في رسالته:
تحية وسلام واحترام وبعد، شكرا الجمعية المغربية للدراسات الأكاديمية العربية. شكرا جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس وكلية الآداب ظهر المهراز رأساً..شكرا أستاذنا الدكتور سيدي عبد الله بنصر العلوي على كلمتكم السامقة وأنتم تعددون وجوه الجمال في ما أكتب، وما أقول، وإنكم الجميل الذي يرى الوجود جميلا.. شكرا السيد رئيس المجلس الأستاذ الدكتور سيدي عبد الله الغواسلي المراكشي، وقد كنتم ربانا حكيما انطلقَ ورَسَا بمركبنا في أمان واطمئنان، محملا بكريم الدرر ونفيس الجواهر.. شكرا للأساتذة الباحثين الذين تفضلوا بقراءة منجزي النقدي، الدكاترة الأجلاء السادة: خالد التوزاني، عمر أقلعي، مصطفى بوخبزة.. وفي حضرتكم توجّب الصمت لتتشنّف الأسماع.. شكرا الشاعر الكبير أستاذي الدكتور سيدي محمد يعيش على كلمتكم البديعة وأشعاركم السابحة في شفوف الصفاء عروجا.. شكرا أستاذنا القدير سيدي مولاي أحمد الدويري الذي ما فتئ يواكب هذه المجالس ويسهم في بلورة الرؤى النقدية الرصينة التي تخدم الفعل الإبداعي الجاد. شكرا لكل الحضور الكرام من الأحبة الذين شاركونا هذا اليوم بحضورهم السخي ومداخلاتهم النيرة. شكرا صديقي الفاضل الدكتور سيدي عبد الكريم الفرحي على كلمتكم الطيبة الراقية التي تعكس عمق المحبة وأصالة الصحبة.شكرا الصديق العزيز الدكتور سيدي ميلود بجاوي الذي أشرف على الإجراءات التنظيمية بدقته المعهودة وحرصه الشفيف.. أحبتي الكرام، وإنه بمثل هذه المبادرات اللطيفة تُشحذ أسنة الحروف، ويشعّ وميض الكلمة، فيستمر الإبداع وتتدلّى رُطَب جَناه.. كل الحب والتقدير والشكر والوفاء لكم جميعا.. واللهَ أسأل أن يكلل مساعي هذه الجمعية المباركة بالنجاح، ويوفق القائمين عليها إلى جادة الصواب والتألق دائما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبهذه الرسالة اللطيفة، يجمع الناقد الدكتور عبد الكريم الرحيوي بين العلم والأخلاق، ويسمو في مقامات المحبة التي يكنها له الجميع، وبذلك يستحق أكثر من تكريم، وأبلغ من تقدير، لمكانته في الساحة الثقافية العربية، ولأخلاقه الكريمة التي تنم عن باحث رصين يملك حساً إنسانياً نبيلاً، وهو ما جعل كل من عرفه عن قرب يشهد له بالصفاء والنبل وحسن الرفقة وصدق المودة والإخاء، وقد كان هذا المجلس الأدبي الثالث في قراءة منجزه العلمي مناسبة طيبة للوقوف عن قرب على السمات الإنسانية النبيلة التي تطبع شخصية باحث نحت اسمه في الصخر وأبدع في تخصص دقيق، أعلامه اليوم يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، لما يقتضيه تخصص النقد القديم من سعة اطلاع بالتراث الشعري العربي وامتلاك ناصية اللغة وإتقان للمناهج النقدية فضلاً عن الحس النقدي والموهبة في سبر أغوار النصوص، ومن ثم فإن أمثال هذا الباحث يشرفون الجامعة المغربية بل الأمة العربية والإنسانية، وخاصة عندما يجتمع العلم والأدب والأخلاق العالية.