بقلم: نعمة الله رياض
بإحساس عميق مفعم بالحب والإمتنان، تأمل صورة زوجته المعلقة علي جدار الغرفه ، مرت ثلاثة أيام علي سفرها إلي مدينة المنصورة لزيارة شقيقتها المتزوجة والمقيمة هناك ، جادت عليه الذكريات بمشهد لقائه الأول بها في حفل أقامته الكلية للخريجين ، عندما دنت منه وقدمت نفسها كطالبة سابقة حضرت محاضرات كان يلقيها منذ عدة أعوام . رحب بها ودعاها للجلوس معه علي مائدة في الجوار .. أدرك عند مناقشتهما لفيض من المواضيع أنها تتمتع بآفاق معرفية واسعه وقوى عقلية مرتفعة ومواهب عديدة .. تصافحا عند مغادرتهما الحفل علي وعد بلقاء آخر ، تعددت اللقاءات والأحاديث العابرة وأسعدته سعادة لا توصف ، لازمه في لقائهما شعور أسمي من الفرح والسعادة ، شىء غامض ايقظ فيه احاسيس الحب ،والإقبال علي الحياة، سرعان ما قررا تتويج العلاقة بينهما برباط الزواج الحريري .. مرت الأيام والشهور الأولي من الزواج والسعادة تحتضنهما، داهمهما شعور آسر بصفاء ونقاء الوجود .. كان يساعدها في تحضير رسالة الدكتوراة ، لما له من خبرة مميزة في هذا المجال، وكانت تساعده في إعداد محاضراته وترتيب مواعيده في الكلية، وإسداء النصح والارشاد لما قد يعترضه من عقبات .. لكن دائماً لا تأتي الرياح بما تشتهيه السفن ، فأصبح يعاني، بحكم السن ، من مشاكل في القلب، ونصحه الأطباء بعلاج مكثف والإبتعاد تماما عن الخوض في المشاكل التي تسبب الإنفعالات والتي قد تعرضه للخطر، تلقفت زوجته نصائح الأطباء وزادت من جرعة العنايه به وتنظيم متابعة الأطباء له .. من جهته كان حريصاً علي إحاطتها بعطفه وتقديره لإخلاصها وتفانيها.. تلقت الزوجة رسالة صوتية من شقيقتها المقيمة في المنصورة، تخبرها أن موعد الجراحة المقرر إجراءها في المنصورة قد ازف ، ودعتها للحضور لرعاية أسرتها خلال تواجدها في المستشفي. طلبت الزوجة اذن زوجها بذلك فوافق، ومن جهته استدعي شقيقه الأصغر للمكوث معه خلال هذه الفترة للعناية به واعطائه الادوية في مواعيدها .. مضت ثلاثة أيام أخري علي مرافقة الزوجة لشقيقتها التي نجحت الجراحة لها وتقرر أن تخرج من المستشفي .. بالطبع لم ينقطع الإتصال التليفوني بين الزوجين طوال الأسبوع الذي أمضته الزوجة بعيداً عن أسرتها وحان وقت عودتها للقاهرة ، إستقلت اتوبيساً سريعاً في رحلة العودة ، جلست بجانب نافذة الأتوبيس بينما جلست راكبة أخري بجانبها ناحية الممر، أخذتا يتجاذبان أطراف الحديث لتمضية وقت الرحلة ..
كان الزوج متلهفاً علي عودة زوجته ، قلقاً عليها ، فهي المتكأ والسند فيما تبقي له من عمر. من نافذة غرفته كانت الأشجار المزهرة تضيف لمسة من الجمال علي المشهد ، وفي الخارج كانتُ الرياحُ العاتيةُ تصفع الوجوه بقوة لمن يتجرأ ويغادر المكان ، وسحب داكنة تنذر بامطار غزيرة ، تحوَّلَت النافذةُ إلى لوحةٍ مُكتظّةٍ بمختلف الألوان . هو يحب الحياة ويتمسك بها، ويبذل كل جهده ليبقى في صحة جيدة وسلام داخلي .. ولكن القدر رتب له ولزوجته مفاجآت أخري ، فقد فوجئ سائق الأتوبيس أثناء قيادته علي الطريق السريع بسيارة نقل ضخمة تصدمه علي طول جانب الأتوبيس أثناء محاولة قائد سيارة النقل تجاوز الأتوبيس ، إنقلب الأتوبيس علي جانبه وإمتلأ المكان بالصراخ والعويل ، وجدت الزوجة نفسها أسفل النافذة التي كانت بجانبها فأسرعت بالخروج من الأتوبيس ، إنفجر خزان الوقود وبدأت النيران تشتعل فأسرع الركاب بمغادرة الأتوبيس وإحترق عدد كبير من الركاب ونجا قلة منهم .. ابلغ عن الحادث وفي دقائق معدودة حضرت سيارات الشرطة والاسعاف والمطافي ، تم تجميع القتلي ونقل المصابين علي عجل للمستشفيات في القاهرة والمنصورة وتولت الشرطة إعداد كشوف بأسماء الضحايا لإبلاغ أقاربهم أو معارفهم .. انتشر خبر الحادثة بسرعة عن طريق وسائل التواصل الإجتماعي .. قرأ قريب من العائلة إسم الزوجة في قائمة القتلي فأخبر شقيق الزوج بما حدث، وطلب منه إخباره بالحادثة مع مراعاة كبر سنه وعدم تحمله للإنفعالات الحادة .. علم الزوج بما حدث لزوجته ، حاول أن يستوعب الصدمة ، أجهش بالبكاء ، صرخ كأن سكينا إخترق صدره ، ساعده شقيقه حتي وصل للفراش ، رقد علي ظهره ، هيئ له صور اباه وأمه واخواته في سقف الحجره ينظرون اليه ويلوحون بأيديهم، كان علي عتبة الألم وهو يرد التحية، وأغمض عينيه والكوابيس تطارده .. صباح اليوم التالي جلس مع شقيقة الذي بذل كل ما في وسعه لمواساته، إقترب النهار من منتصفه، فوجئ الشقيقان برنين جرس الباب لتدخل منه الزوجة وتحيهم بحرارة !!!.. ذهل الزوج معتقداً أن ما يراه شيئاً غير حقيقي، لكن الزوجة شرحت لهما هذا اللبس، فما إن خرجت من نافذة الأتوبيس المقلوب وإشتعال النيران فيه ، حتي تلقفتها أيادي رجال تطوعوا للإنقاذ وعرضوا عليها الا تنتظر في المكان وتستقل السيارة معهم للقاهرة، وفور وصولهم للقاهرة أعطوها بعض المال لمحاسبة سيارة الأجرة ، لان حقيبة يدها فقدت في الحادث .. سألها شقيق زوجها :- كيف استدلت الشرطة علي اسمها وادرجته في قائمة القتلي ؟ أجابت : – أنه في الغالب عثروا علي حقيبة يدها تمسك بها إمرأة محترقة وهي التي كانت جالسة علي المقعد المجاور لمقعدها، وعثروا داخل الحقيبة علي بطاقة هويتها وإعتقدوا أنها تخص الزوجة !! كان الزوج يستمع لحديث زوجته غير مصدق أنها ما زالت علي قيد الحياة ، كان يسمع قولها مختلطاً بدقات قلبه، أخذ يضحك ضحكات هيستيرية ، ويبكي بدموع غزيرة، أحس بألم مبرح في صدره وارتمي علي مقعد مجاور وفقد الوعي .. نقل علي عجل للمستشفي، لكنه فارق الحياه .. قال الطبيب إنه أصيب بنوبة قلبية حادة سببها فرط السعادة !!