بقلم: المطران ميلاد الجاويش
ما من عدوّ إلى الأبد. عدوّي هو عدوّي إلى حين. البغضاء لا تدوم، وإلاّ تأبّدت كأبديّة الله. الفضائل تدوم، «وأعظمها المحبّة» كما قال بولس الرسول (1 كور 13: 13). تدوم، لأنّ الله محبّة.
ما أقوله في محدوديّة العداوة ليس وهمًا، بل درسٌ في كتاب البشريّة. راجعوا التاريخ تجدوا أنّ مَن كانوا أعداءً في الأمس أصبحوا اليوم حلفاء، والعكس أيضًا صحيح. أمثال عديدة تجول في رأسي.
مَن يقرأ سفرَ الملوك الأوّل في الكتاب المقدّس (الفصول 3-11) يعجب من الدور المحوريّ الذي لعبَه حيرام، مَلكُ صُوْر، في تثبيت مُلْك سليمان، مَلك إسرائيل. ما ترك ذلك الملكُ الفينيقيّ شيئًا في أورشليم لم يَبنِه لملكها: هيكله، بيته، أسطوله، أَوانيه…إلخ. سَخَّر له أرزَ لبنان وأسطولَه وعمَّاله وبنّائيه وصُنّاعه، من صور وصيدا وجُبيل… والنتيجة: «وكان بين حيرام وسليمان سِلم، وقطَعا كلاهما عهدًا» (1 مل 5: 26). أين صُور وأورشليم اليوم؟ على طَرَفي نقيض، وأهلُهما أعداء حتّى الموت.
مَثَلٌ معاكس من أوروبّا. في 6 حزيران 2014، نُشرَت صورةُ رَجُلَين عجوزَين، أحدُهما ألمانيّ والآخر فرنسيّ، يتعانقان على شاطئ النورماندي في فرنسا. قبل سبعين سنة، في 6 حزيران 1944، كان هذان الرجلان يتقاتلان وجهًا لوجه على الشاطئ نفسه، حين أنزل الحلفاء جحافلهم على البَرّ الفرنسيّ إيذانًا ببدء تحرير أوروبّا من النازيّة المقيتة. الإنسان متوحّش في الحرب، رقيقٌ في الإنسانيّة!
من أوروبّا أيضًا. قرأت مرّةً أنّ الأمّ الفرنسيّة كانت، مع الحليب، تُرضع ابنَها حسَّ العداوة لألمانيا، بعد أن خسرت فرنسا الحرب سنة 1871 واقتطعت الإمبراطوريّة الألمانيّة منطقتَي الألزاسواللورين منها وضمّتهما إليها. أين فرنسا وألمانيا اليوم؟ هما ركيزة أوروبّا الواحدة الموحَّدة. روبرت شومان الكاثوليكيّ الملتزم، أحد مؤسّسي الاتّحاد الأوروبّيّ والذي يجري الدمُ الفرنكو-ألمانيّ في عروقه، غزت المعالمُ والساحاتُ المسمّاة باسمه أوروبّا كلّها، حتّى إنّ دعوى تطويبه وإعلانه قدّيسًا فُتحَت في الدوائر الفاتيكانيّة.
مَن منّا لم يشاهد الفيلم الرائع «JoyeuxNoël» الذي كتبه وأخرجه الفرنسيّ كريستيان كاريون، وفيه يحكي قصّة ثلّة من الجنود الألمان والإسكوتلنديّين والفرنسيّين الذين تطاحنوا أمس وما قبله في خنادق الرعب في أثناء الحرب العالميّة الأولى، لكنّهم في تلك الليلة المجيدة، ليلة الميلاد سنة 1914، رمَوا بنادق الموت ورنّموا واحتفلوا معًا على الجبهة بعيد ميلاد ربّهم السماويّ.
قد يقول البعض: تنادي بانتفاء العداوة، فماذا تفعل بمن احتُلّت أرضه ودُمّر بيته وشُرّد من وطنه كعصفور جريح؟ أَلا عدوّ له؟ أجيب: بلى. العداوة ترتبط بالكرامة. عندما تُنتهك كرامة إنسان أو وطن، فالمنتهِك هو العدوّ. مثلاً، يبقى الإسرائيليّ عدوّ الفلسطينيّ إلى أن تُصان كرامة الأخير وتعادُ أرضه إليه. لكنّ عداوة هذَين الشعبَين بعضهما لبعض ليست إلى ما لا نهاية، ليست إلى يوم الدين. عدوّك لا يمكنك أن «تُزيله من الوجود»، كما ينادي البعض من على المنابر. يبقى عدوَّك إلى أن تُزيلَه بسطوع الحقيقة وتغلبه برِفق المحبّة.
أوصى يسوع أتباعَه: «أحبّوا أعداءكم» (لو 6: 27). لا أظنّ أنّ آيةً استفزّت البشريّة كما استفزّتها هذه الآية. آية أذهلت الجميع. كنتُ أتساءل دائمًا: أنا، كمسيحيّ، هل من عدوّ لي؟ ألم يَدعُني ربّي إلى أن أُحبّ الجميع؟ وإن أحببت الجميع، أفلا تضمحلّ العداوة؟
بعد خبرةٍ وجدتُ أنّ عدوّتي الوحيدة هي الخطيئة. عليها أركّز هجومي وأُعلن استنفاري. ما عدا ذلك، أُلاقي الجميع بالمحبّة.