بقلم: د. خالد التوزاني
اشتهرت مدينة آسفي، المغربية، بكثرة الصلحاء والأولياء، ووفرة الزوايا والرباطات، يقول ابن الخطيب في “معيار الاختيار”: رباط آسفي لطف خفي، ووعد وفي، ودين ظاهره مالكي وباطنه حنفي، الدماثة والجمال والسذاجة والجلال، بلد موصوف برفيع ثياب الصوف، وبه قرية الشيخ أبي محمد صالح الماجري وهو خاتمة المراحل لمسودات تلك السواحل” ، وهذه المدينة إلى جانب كونها أرضاً للأولياء، فهي مقرّ الصلحاء الوافدين عليها من مختلف جهات المغرب، نظرا لما تميّزت به جغرافيتها من تنوع أسعف العُبّاد والزّهاد في إيجاد مكان لهم، بعيداً عن ضجيج المدن الكبيرة والأسواق والأحياء السكنية، حيث تعرف كثرة الكهوف والمغارات، وهي أماكن مطلوبة للخلوة والانقطاع عن الناس، فقد اشتهر ساحل عبدة بعدة خلوات منها خلوة تامرنوت التي كان يتحنث بها الشيخ أبو محمد صالح الماجري قبل بناء زاويته، وخلوة الشيخ محمد بن سليمان الجزولي صاحب دلائل الخيرات، والتي ماتزال اثارها قائمة الى يومنا هذا ومحفوظة بسور يحيط بها.
ويذكر ابن قنفد في كتابه” أنس الفقير وعز الحقير”، أنه كان قد عاين عن قرب ورع مجموعة من أهل الصلاح والتقوى، قريبا من مدينة آسفي، حيث وصف تجمّعاً سنويّاً كبيراً للمتصوفة بقوله: “لقد حضرت مع جملة من هذه الطوائف مواطن عدة، منها، اجتماع فقراء المغرب الأقصى على ساحل البحر المحيط، جوف إقليم دكالة، بين بلد آسفي وبلد تيطنفطر، ومعنى هذا الاسم: عين باردة، زمان قضائي بدكالة، وهي أرض مستوية (..) دخلها القاضي أبو بكر بن العربي، رضي الله عنه، بعد رجوعه من العراق، وعجب من قلة مائها وكثرة خيرها، وكان الاجتماع في شهر ربيع الأول المبارك الأسعد الأنور، سنة تسع وستين وسبعمائة، وحضر من لا يحصى عدده من الفضلاء، ولقيت هناك من أخيارهم وعلمائهم وصلحائهم ما شردت به عيني بسبب كثرتهم… ورأيت في ذلك المجمع العظيم، والمشهد الجسيم، غرائب وعجائب لا يرى مثلها أبدا لتغيير الأحوال بعد ذلك” . وابن قنفذ شاهدٌ على نهضة التصوف في منطقة دكالة وغيرها من المناطق التي زاهرها، فوصف أحوال شيوخها وذكر رجالا ونساءً من أهل الصلاح والشرف والولاية.
تفيد الكثير من الدراسات والأبحاث التاريخية بأن التصوف في مدينة آسفي يتجذر في عمق الهوية المحلية، حيث يحظى المتصوفة والصلحاء فيها بمكانة متميّزة، ولذلك تنتشر في هذه المدينة ونواحيها، العديد من الزوايا والرباطات، أولها وأقدمها رباط الشيخ شاكر “سيدي شيكر”، والزاوية “الماجرية”، التي أسسها الشيخ أبي محمد صالح، حيث يعدّ رباطه جزءً من تاريخ آسفي وتاريخ المغرب ككل، وهناك الزاوية “الجزولية” التي أسسها الإمام محمد بن سليمان الجزولي، والزاوية الغنيمية التي أسسها الحسن بن رحو الغنيمي الملقب بالشيخ الكامل، وعنها تفرعت مجموعة من الفروع بكل من سطات والشاوية ودكالة وغيرها من مناطق المغرب، ليتبين بأن آسفي كانت سباقة لاحتضان التصوف وإنشاء مجموعة من الزوايا لها فروع بجل المناطق المغربية وبدول المغرب العربي وبعض الدول العربية المشرقية التي لا زالت بها أضرحة وفروع لزوايا لها امتداد من آسفي إلى هناك .
ونظرا للموقع الجغرافي الذي يميّز مدينة آسفي، بوصفها مدينة ساحلية، كانت دائما عرضة للاحتلال الأجنبي، ولذلك عمل المتصوفة وخاصة أتباع الجزولي على مقاومة الغزو الإيبيري للسواحل المغربية، في وقت كان فيه الحكام الوطاسيون يتأرجحون بين المشاركة في الجهاد والرغبة في ربح الوقت، الذي يسمح لهم بإعادة توحيد البلاد، فبعدما كان دور الصوفية مقتصراً على التربية والتعليم ورعاية الشأن الديني أو حماية الأمن الروحي للمغاربة، كان التحوّل نحو المقاومة بإنشاء المزيد من الرباطات التي كانت بمثابة ثكنات عسكرية، وخاصة مع تزايد التهديد المسيحي للسواحل المغربية، فأحيت الزوايا الجهاد وحرضت على المقاومة، علماً أن هذا التوجّه لم دائما مرحّباً به من قبل السلطة السياسية، حيث يذكر المؤرخ أحمد الناصري في كتابه: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، أنَّ والي آسفي طرد محمد بن سليمان الجزولي من البلد، فدعا عليه، ثم سأله العفو، فقال: أربعين سنة. وهو ما فسّر بدخول النصارى إليها أربعين سنة .
لم يكن الشرف والصلاح بوصفهما مكوناً من مكونات التصوف، مقتصراً على الأولياء الذين رحلوا إلى دار البقاء منذ قرون، وظل حضورهم في الذاكرة الشعبية حاضراً، ومؤثراً في الوجدان الشعبي، وفي كتب التراجم والمناقب، وإنما امتد التصوف إلى وقتنا الحاضر، فهناك شيوخ وعلماء وأولياء، عُرِف منهم مَنْ عُرِف واشتُهِر، وظل مغموراً مَنْ بقي في زاويته أو حانوته أو خلوته، ذاكراً ربه في سِرّه، لا يُحدّثُ الناس بما لديه من أشواق وأذواق، وقد لا يعرفه إلا المقربون منه، من أولاده وجيرانه، ولذلك كان التصوف أحد أكثر المجالات الإنسانية خصوبة في التاريخ، لأنه ارتبط بالذات الإنسانية في صلتها بالخالق، وفي رحلتها إلى الله، الشيء الذي يجعل هذا المجال محكوماً برغبة العابد في الكشف عن أسرار هذه الصلة، أو كتمانها، أو تدوين بعضها في كتب ومؤلفات، وضمن هذا الاتجاه استطاع بعض الباحثين من أساتذة الجامعة المغربية تحقيق بعض المخطوطات النادرة في التعريف بأعلام التصوف الحديث والمعاصر، وإخراجها للوجود في طبعات جديدة، تأكيداً لاستمرار قضية الولاية والصلاح في المجتمع المغربي، وترسيخاً لحضور التصوف في المدن والقرى المغربية.
تزخر جل مناطق المغرب بعدد من أعلام التصوف المؤثرين في محيطهم، والذين جاهدوا بالعلم والذكر، وكانت بصماتهم واضحة في تعزيز مكانة الصلاح داخل المجتمع، بتحفيظ القرآن للناشئة، وزرع مكارم الأخلاق، وتقويم السلوك، وحث الناس على ذكر الله، وتصفية القلوب والارتقاء بالعلاقات الاجتماعية من المصلحة والمنفعة إلى الأخوة والمودة، مصداقاً لقوله تعالى: “إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا “ ، فكان فناء هؤلاء عن الكيف والكم ونزوعهم نحو التماس الأجر في الآخرة، جرياً على عمل الصحابة والتابعين من أهل القرون الأولى، واقتداء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فالاعتصام بالكتاب والسنة يعد ميزة التصوف الإسلامي في المغرب كما يقول الرحالة أبو سالم العياشي: “والطريقُ إلى الله تعالى من غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْدودٌ، والداخلُ من غير بابهِ مَرْدودٌ، وأما السنةُ فلا سبيلَ إلى معرفتها إلا بواسطةِ الصَّحابَةِ، رضوان الله عليهم” .
نظرَ المغاربة إلى التصوف نظرة وسطية، اختاروا فيها أجود ما في التصوف، فقالوا: “التصوف الحق هو إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأداء الفرائض، وتوفية الأعمال، وتصفية الأحوال” ، واعتبروا محبة الرسول “ومعرفته صلى الله عليه وسلم هي رأس المال في الدخول إلى حضرة الجمال والجلال” ، ومهما تعددت الزوايا في المغرب فقد بقي مشربها واحد هو القرآن والسنة، وقصدها واحد هو خدمة الدين والوطن؛ أما خدمة الدين فمنهجها “القويم فيها يتمثل أساسًا في الاعتصام بالكتاب والسنة، وإشاعة العلم وتهذيب النفس بالإكثار من الذكر، وأما خدمة الوطن فتتمثل أساسًا في القيام بالواجب نحو الإمامة العظمى التي تمثلها إمارة المؤمنين، والحرص على خصوصيات المغرب الثقافية؛ حتى لا تضمحل تحت تأثير كل المشوشات الدخيلة” . فكان التصوف بهذه المقومات عاملا حاسماً في ترسيخ الأمن الروحي وحماية الاستقرار بصيانة الوحدة الترابية والمذهبية، وفي الآن نفسه عاملا من عوامل مقاومة مسخ الهوية في ظل رياح العولمة أو خلال فترة الاستعمار، وإلى اليوم يمارس دوره في التربية والتكوين، وفي تأطير المجتمع المغربي، وصيانة ثوابته الدينية والوطنية.