بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
في الثالث من شهر آب/أوغسطس الجاري، قامت السيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب التابع للكونغرس الأميركي، بزيارة الى جزيرة تايوان على رأس وفد نيابي، وقد أثارت هذه الزيارة ضجة عالمية كبرى، وأسفرت عن نتائج عديدة سنعرضها بالتفصيل بعد أن نلقي نظرة سريعة على علاقات الولايات المتحدة مع تايوان التي انفصلت عن الصين بعد تسلم الحزب الشيوعي برئاسة ماو تسي تونغ الحكم فيها عام 1949.
تقيم واشنطن علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية منذ عام 1979 حيث تبنت إدارة الرئيس جيمي كارتر آنذاك سياسة “الصين الواحدة”، معترفة بذلك بوحدة أراضي الصين التي تعتبر جزيرة تايوان جزءا لا يتجزأ منها، ولكن واشنطن أبقت علاقات اقتصادية وثقافية وأمنية مع تايوان بموجب قانون صادر عن الكونغرس في السنة نفسها يعرف بقانون “العلاقات مع تايوان”. أي أن الولايات المتحدة، في الوقت الذي تقيم فيه علاقات دبلوماسية مع الصين، تقيم علاقات غير رسمية مع تايوان كما أنها، وفقا للقانون المذكور، ملتزمة بتزويد تايوان بالأسلحة الدفاعية في حال حاولت الصين اجتياحها وإنهاء الحكم الذاتي فيها بالقوة.
على هذه الخلفية من العلاقات الملتبسة والغامضة بين الولايات المتحدة والصين، وفي ظل أجواء متوترة بين البلدين بسبب الحرب التجارية القائمة بينهما منذ فترة والتحالف الصيني- الروسي، نفذت السيدة بيلوسي زيارتها الى جزيرة تايوان ضمن جولة على دول آسيا شملت سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان، علما أن إعلان برنامج الجولة الآسيوية لم يذكر تايوان، كما أن البيت الأبيض ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية في الولايات المتحدة كان لها تحفظات واضحة على هذه الزيارة، والصين أنذرت الولايات المتحدة بأن هذه الزيارة، إن تمت، سيكون لها عواقب وخيمة.
لماذا إذن قامت بيلوسي بهذه الزيارة رغم كل الظروف المعاكسة؟
دوافع وأسباب الزيارة
مع أن السيدة بيلوسي لم تشرح أهداف زيارتها الى تايوان، يبدو أن هنالك أسبابا سياسية وأسبابا شخصية للزيارة.
يمكن تلخيص الأسباب السياسية بأن للسيدة بيلوسي مواقف عدائية قوية منذ عقود لنظام الحكم في الصين لما تراه فيه من قمع لحقوق الإنسان وخاصة الحريات العامة، وعلى أثر الإجتياح الروسي لأوكرانيا بعد أن أعلن الرئيس الروسي بوتين أن أوكرانيا ليست بالفعل دولة مستقلة بل هي جزء من الأراضي الروسية، برزت الخشية من أن تجتاح الصين جزيرة تايوان بنفس الذريعة، فأرادت السيدة بيلوزي إظهار تأييد الولايات المتحدة لتايوان وثني الصين عن القيام
بأية مغامرة ضد الجزيرة. يضاف الى ذلك أنه، منذ انتشار خبر احتمال زيارة بيلوسي الى تايوان، صدرت عن القيادة الصينية تحذيرات وتهديدات جعلت أي تراجع عن الزيارة يفسر بضعف أميركي أمام الصين.
أما الأسباب الشخصية، فهي أن بيلوسي امرأة حديدية لا تخشى التهديد والوعيد، ومن المرجح أنها لن تترشح للمجلس النيابي في الإنتخابات النصفية في شهر نوفمبر القادم بسبب تقدمها في السن، وتود ان تترك إرثا يُبرز قوتها ومساهماتها ودورها في الحياة السياسية الأميركية وفي الدفاع عن حقوق الإنسان.
هل أفادت بيلوسي تايوان بزيارتها وهل تمكنت من تحقيق نتائج إيجابية للجزيرة أو للولايات المتحدة؟
نتائج وتداعيات الزيارة
لا بد من التوضيح انه، عندما لم تكن الزيارة قد تأكدت بعد، وفي الوقت الذي كانت تصدر فيه الصين الإنذار تلو الآخر، اتصل الرئيس الأميركي جو بايدن بنظيره الصيني شي جنيبين وحاول تطمينه بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين وتايوان لم ولن تتغير، شارحا واقع فصل السلطات في بلاده وعدم إمكانية البيت الأبيض التأثير مباشرة على قرارات السلطة التشريعية، ومؤكدا في الوقت عينه أن الولايات المتحدة لن تخضع للتهديد والإبتزاز، ولكن الرئيس الصيني استمر في موقفه الرافض بقوة للزيارة وفي إصدار التهديد تلو الآخر.
والآن بعد أن تمت الزيارة، كيف يمكن تقييم نتائجها وتداعياتها سواء على جزيرة تايوان، أو على العلاقات الأميركية الصينية؟
أولا، بالنسبة الى تايوان، لا شك أن استقبال بيلوسي كان حارا جدا من قبل المسؤولين المحليين الذين رحبوا بزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي التي جاءت لتعبر عن تأييدها وتأييد بلادها للجزيرة في هذا الوقت بالذات، خاصة وأن السيدة بيلوسي لم تأبه للتهديدات الصينية المتكررة، فوجدوا في ذلك تطمينا وتأكيدا على دعم الولايات المتحدة لهم في حال هجوم صيني على الجزيرة، علما أن السيدة بيلوسي هي أرفع مسؤول أميركي يزور الجزيرة منذ ربع قرن. كذلك زادت نسبة المؤيدين التايوانيين لاستقلال الجزيرة وانفصالها بالكامل عن الصين وعدم الإكتفاء بالحكم الذاتي بعد التهديدات الصينية المتكررة لها.
ولكن في مقابل ذلك، نفذت الصين مناورات عسكرية مكثفة بالذخيرة الحية، وحاصرت الجزيرة من جميع النواحي، ما أرغم سلطات تايوان على إعلان حالة الطوارئ والإستعداد لمقاومة أي اعتداء محتمل، مع ما يرافق حالة الطوارئ من تعطيل للحياة الطبيعية وتكاليف باهظة. كما أن المناورات الصينية في محيط الجزيرة كانت الأضخم والأخطر منذ انفصال تايوان عن الصين.
ثانيا، بالنسبة الى العلاقات الصينية-الأميركية، فقد شهدت هذه العلاقات مزيدا من التدهور، وقد أوقفت الصين قنوات التواصل التي كانت قائمة مع الولايات المتحدة ما سيؤدي الى صعوبات إضافية في السعي الى حل اية مشكلات إضافية قد تطرأ بين البلدين. جدير بالتذكير هنا أن شهر نوفمبر القادم سيشهد انتخابات تشريعية نصفية في الولايات المتحدة حيث يتم انتخاب جميع أعضاء مجلس النواب (435) وثلث أعضاء مجلس الشيوخ (33)، والحزب الديمقراطي الذي هو حزب الرئيس بايدن يخشى خسارة الأكثرية الضئيلة جدا التي يملكها حاليا لأن خسارتها ستعطل برنامج الرئيس بايدن التشريعي ووعوده الإنتخابية، لذلك فإن على بايدن أن يتخذ مواقف قوية في الدفاع عن سياسة بلاده والتزاماتها الخارجية.
من جهة ثانية، سيعقد في الصين مؤتمر الحزب الشيوعي أيضا في شهر نوفمبر لانتخاب رئيس الدولة، والرئيس الحالي شي جينبين سيترشح لدورة ثالثة وهذه المرة الأولى التي يتولى فيها رئيس أكثر من دورتين، وهو أيضا بحاجة الى إظهار مواقف قوية دفاعا عن الصين، وهو يستغل الأزمة الناتجة عن زيارة بيلوسي الى تايوان لهذه الغاية.
جدير بالإشارة أن وفدا من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي زار تايوان منذ بضعة أشهر ولم تعلن الصين أي احتجاج على ذلك، ولكن ربما قرب الإنتخابات الرئاسية حملت الرئيس شي جينبين على اتخاذ هذه المواقف المتصلبة الآن.
ختاما، وبالرغم من ازدياد التهديدات الصينية القوية لتايوان، وبالرغم أيضا من التوتر المتزايد في العلاقات الأميركية-الصينية على أثر زيارة بيلوسي، فإن احتمال حصول حرب بين الولايات المتحدة والصين كما يعتقد البعض ما زال أمرا مستبعدا في الوقت الحاضر، فالصين عندها مشكلات اقتصادية جمة قد تؤخر وصولها الى مركز الأقتصاد الأول في العالم، وهي تحتاج في هذا الظرف بالذات الى الإستمرار في تصدير منتجاتها الى الولايات المتحدة التي تستورد 17% من المنتجات الصينية وتعتبر أكبر دولة مستوردة لهذه المنتجات، كما أن الولايات المتحدة مرتبطة مع الصين بعلاقات اقتصادية ومالية قوية خاصة وأن الصين تملك نسبة ملموسة من الدين الخارجي الأميركي، يضاف الى ذلك انغماس الولايات المتحدة في الحرب الروسية-الأوكرانية وفي الإنتخابات النصفية، ما يجعلنا نعتقد أن إرتفاع منسوب الكلام المتبادل بين الصين والولايات المتحدة هدفه الآن الإستهلاك السياسي الداخلي في كل من الدولتين.