بقلم: د. حسين عبد البصير
مجد «أور» وأسرار التوراة يسحران الجميع!
نجح السير “ليونارد وولي” في الكشف عن مدينة “أور” السومرية القديمة في العراق، والتي تعد الموطن الأصلي لأحد آباء التوارة المؤسسين وأعنى أبا الأنبياء سيدنا “إبراهيم الخليل” عليه السلام وفقًا لما إشار إليه “سفر التكوين :11”. وقد ألهب هذا الكشف خيال الجميع على الرغم من الاكتشافات الأخرى التى تمت فى المائة والخمسين عامًا الماضية في حقل الآثار في هذه المنطقة الفريدة من العالم بآثارها خصوصًا الدينية منها والتى تعد أيضًا مهد الحضارات البشرية قاطبة.
وعلى مدار أكثر من 12 موسمًا من الحفائر المتصلة، ما بين الأعوام 1922- 1934، طيرت صحف العالم مقالات لا تعد ولا تحصى حول اكتشاف “وولي” في العراق. ووصفته الجريدة “لندن المصورة” -عين إنجلترا على العالم آنذاك- في لا ما يقل عن ثلاثين مقالة مصورة في صدرها صفحاتها الرئيسية. وجاء هذا الكشف ليؤكد أسبقية الشرق في إرساء مذاهب ومدارس علم الجمال وتأسيس حضارات عظيمة الثراء، وكشفت أطلال هذه المدينة عن روعة ذلك الشرق الساحر، واكتملت أهمية حفائر “وولى” بالعثور على مقبرة الفرعون الذهبى الأشهر “توت عنخ آمون” في مصر.
وكان قد اختبر موقع هذا الاكتشاف المهم من قبل، نائب القنصل البريطاني في البصرة المدعو “جون تايلور” بين العامين 1853- 1854م. وعلى الرغم من أنه لم ينجح تمامًا في العثور على آثار هذه المدينة كاملة، فقد نجح بعض الشيء في العثور على الألواح الطينية المنقوشة بالكتابة المسمارية، التي أشارت إلى مدينة “أور” على أنها “أور الكلدانيين” المذكورة في سفر التكوين في التوراة.
ثم جرت أحداث سياسية عالمية، كان من أفداح آثارها إغلاق الموقع الأثري في وجه أعمال الحفائر، إلى أن وقع في قبضة البريطانيين في الحرب العالمية الأولى. فتم تأخير الحفائر إلى عام 1922م، عندما وافق المتحف البريطاني في لندن ومتحف جامعة بنسلفانيا الأمريكية على إرسال بعثة حفائر مشتركة. وتولى إدارة الحفائر “ليونارد وولى” الذي كان أثريًا وضابطًا ذكيًا للغاية قضى سنتين في السجين كسجين حرب! وجاءت بداية الحفائر بسيطة ولم تلفت إليها الأنظار إلى أن جاء موسم 1926-1927م حيث عثر على 600 مقبرة. ثم توالت الاكتشافات المذهلة بسرعة كبيرة فاقت الخيال وكل تصور.
وانتاب “وولي” وفريقه شعور فياض بالدهشة عندما أخذ الذهب يخرج من الأرض تحت ضربات معاولهم، وعندما ظهرت إلى الوجود المعجزات الفنية الواحدة تلو الأخرى. وعثر “وولى” على عدد كبير من المقابر، قدر بأكثر من 2000 مقبرة ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وكان بعضها على قدر كبير من الثراء مما دفع “وولى” إلى الاعتقاد بأن جميعها مقابر ملكية. وعلى الرغم من أن معظم المقابر قد سرقت، فقد عثر على مقبرة كاملة رائعة تخص السيدة “بو- آبا” ترجع إلى الفترة التي اصطلح الأثريون على تسميتها بـ “عصر الأسرات المبكر” (2600-2500 ق.م). عندما كانت “أور” من “دويلات المدن” المستقلة على السهل الفيضي الجنوبي لنهر الفرات. واحتوت المقابر آثارًا في غاية الفرادة والروعة مثل القيثارات ذات الزخارف الذهبية، والألواني والحلي المصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والأسلحة التي كانت ترافق الموتى في رحلتهم في العالم الآخر والأوعية والخناجر الذهبية، والتماثيل الذهبية المطعمة باللازورد لـ “الكبش المصيد في الأجمة” – الذي حاول “وولي” تفسيره تفسيرات دينية توراتية، حين وصفه بأنه يشبه الذي جاء في “سفر التكوين 13:22” على أنه “كبش يعلق بشجرة” – ورؤوس الحيوانات المصنوعة من الذهب والفضة التي زينت القيثارات الموسيقية، ووشاح الرأس الذهبي الخاص بالسيدة “بو- آبا”، وفوق كل هذا الخوذة الذهبية الرائعة الخاصة بالسيدة “مس- كلام- دوك”، كذلك المواكب الجنائزية الغريبة التي ضمت الموسيقيين مع قيثاراتهم، والجنود بكامل أسلحتهم، وحاشية نساء القصر بملابسهم البهية، كل بمحض إرادته في اتجاة حفر الموت الأعظم حيث يتعاطون السم الزعاف حتى الموت ليدفنوا في صحبة سيدهم بعد وفاته مباشرة ليخدموه في العالم الآخر في ما يعرف بعادة “التضحية البشرية” في المجتمعات القديمة.
وسوف يبقى اسم “أور” مرتبطًا عند علماء الآثار، بشكل خاص، وإلى الأبد، بـ “الزقورات”، أو الأبراج المدرجة التي أقيمت في “أور”، وبقيت إلى الآن من أكثر النصب والمعالم المثيرة للدهشة والإعجاب المزدوجين. وأضافت هذه الاكتشافات العظيمة فصلاً جديدًا في تاريخ العراق القديم، وأوضحت حجم العلاقات التجارية الكبيرة التي تمتعت بها مدينة “أور” العراقية القديمة الشهيرة.
ولا يمكن للذاكرة أن تنسى هذه المدينة الفريدة من نوعها. وسوف تبقى قصة اكتشافات “ليونارد وولي” لهذه المدينة، قصة جديرة بالبقاء ومصدر فخر وسعادة للعلماء في العالم كله، لسنوات طوال قادمة، وإن كان “وولي” قد أخذ مكافأته بالعثور على الجبانة الملكية الفخمة في “أور”، فإن أسرار هذه المدينة لم تعلن عن نفسها كلية، فهي إنجاز حضاري متواصل العطاء لم تُسبر أغواره بعد.
أسرار التوراة المقدسة في جوف الصحراء القاحلة!
لقد أعتادت “لفائف البحر الميت” كتابة التاريخ في عهد السيد المسيح عليه السلام، وغيرت الرؤية إلى التوراة والدراسات التوراتية عمومًا، وقادت الباحثين إلى فهم جديد للتاريخ والآثار والدين. وتوضح هذه اللفائف التي تحتوي على أقدم المخطوطات المهمة للتوراة العبرية، حقيقة بزوغ اليهودية والمسيحية كديانات قوية.
في ربيع عام 1947م، وفي كهف قريب من البحر الميت، عثر الصبي محمد الديب، أحد رعاة الأغنام من البدو، على مجموعة من الجرار تحتوي على لفائف مخطوطات قديمة. وقد أدى العثور على هذه المخطوطات إلى سجال علمي استمر ما يقرب من نصف قرن، وأصبحت مثار اهتمام القراء ووسائل الإعلام في كل مكان من العالم. وعثر البدو على المجموعة الأولى من مخطوطات البحر الميت وقدرت بسبع مخطوطات. واتضح معنى هذه المخطوطات وأهميتها بعد عام أو يزيد من العثور عليها. وبيعت إلى تاجر عاديات في “بيت لحم” يُدعى “كاندو”، فباع منها ثلاثة إلى الجامعة العبرية في القدس، والأربعة الأخرى إلى المار “أثاناسيوس صموئيل”، رئيس دير “سانت مارك” للكاثوليك السوريين، فباعها الأخير بدوره في الولايات المتحدة الأمريكية. وانتهى المطاف بها في المدارس الأمريكية للدراسات الشرقية. وأخذ اهتمام الدراسيين الأمريكيين والأوروبيين يتزايد بها. وعثر الدارسون بين هذه المخطوطات على نسخة من “سفر أشعيا” التوراتي أقدم من النسخة العبرية الأصلية. وساهم هذه الأكتشاف في خلق صرعة في وسائل الإعلام وجدذب انتباه معظم الباحثين في العالم أجمع.
وانتشرت حمى البحث عن مثل هذه المخطوطات بين البدو وتجار العاديات. واحتوت المخطوطات التى وجدت أجزاء من نصوص كل كتاب من التوراة العبرية على الأقل. ويرجع تاريخها إلى بين عام 200 ق.م. إلى عام 68 م، وتخص طائفة “العيسويين”، نسبة إلى سيدنا عيسى عليه السلام. وهي طائفة إسرائلية متشددة في رعاية الأحكام الدينية، وتنتظر الخلاص القريب بظهور المسيح الموعود. وهى أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات. وقد جعلوا تعاليم الأنبياء جزءًا مهمًا من اعتقاداتهم. وعندما أدى هذا العصيان إلى محاربة الكهنة الرسميين لهم، تركوا المدن الكبيرة وخرجوا للحياة بعيدًا في البرية والمدن الصغيرة. وأصبحوا يمارسون عباداتهم سرًا حتى لا يبطش بهم الكهنة. وإن كانوا يعتبرون يهودًا، فقد كانوا مختلفين عن باقي اليهود في كونهم يؤمنون بخلود الروح والحساب في الآخرة، ولا يشتركون في تقديم الذبائح في المعبد، ولم يزد عددهم عن أربعة آلاف فرد عند بداية التاريخ الميلادى.
وأصر البعض على أن هذه المخطوطات سوف تبرهن على وجود وألوهية السيد المسيح، فيما أعتقد البعض الآخر أنها احتوت سرًا مدمرًا للمسيحية على اعتبار محتوياتها الحقيقية تشير بوضوح إلى روح القمع. وتشمل المخطوطات حوالى 800 نص، منها حوالى 200 نص من التوراة العبرية، أغنت الفهم عن الديانة اليهودية المبكرة، والأصول الأدبية للتوراة، والتبشير بميلاد المسيحية. وتمت كتابة معظم المخطوطات على الرق، والقليل منها على البردى، وواحدة فقط على رقائق نحاسية. وبالإضافة إلى النصوص التوراتية، ضمت تعليقات غير معروفة على التوراة، والأشكال الأخيرة للعهد القديم التوراتى، وقوائم الطقوس والقواعد، والنصائح أو التعاليم الخاصة بـ “سفر الرؤيا” وقائمة من الكنوز الدفينة. ومعظمها كتبت بالعبرية، والقليل بالآرامية أو الأغريقية.
وتثير لغة ومحتويات هذه المخطوطات بعض الشك في كون كتاّبها من اليهود. ويوضح بعض الوثائق أن مجتمعتهم كان معارضًا نشطًا في مواجهة كهانة يهودية مسيطرة. وعلى الرغم من أن هذه المخطوطات أخذت عقودًا من الدراسة، وطبع معظمها في شكل ما من الأشكال، فإنها ما تزال تمثل التحدي الأكبر أمام الأجيال الجديدة القادمة لتكشف سرها وتميط اللثام عن معلومات كثيرة مجهولة في تاريخ اليهودية والتبشير بالمسيحية في عصرها الأول، خصوصًا أنها لم تنشر كلها. فقد أخفت إسرائيل كثيرًا منها لغرض ما في نفس يعقوب قضاها، وادعت في تمثلية ساذجة وفجة أنها أخرجت كل مالديها من هذه الوثائق النادرة التى لا تخصها وحدها، وإنما تخص العالم أجمع، ومن حقه أن يعرف أسرار هذه الطائفة اليهودية المنشقة عن الديانة اليهودية الرسمية السائدة آنذاك.