بقلم: د. حسين عبد البصير
خطا القرن العشرون خطوات واسعة في حقل الآثار في العالم كله. واتسعت دائرة نطاقه لتشمل اكتشافات أثرية عديدة هزت العالم أجمع منذ لحظة اكتشافها إلى الآن. وإذا نظرنا إلى القرن العشرين نظرة أثرية فاحصة، لوجدنا أنه أعظم القرون قاطبة في تاريخ البشرية من ناحية الاكتشافات الأثرية، ففيه باحت الأرض بأسرارها وحدثّت أخبارها، وأخرجت لنا العديد من الروائع الأثرية المدهشة والتى لم نكن نعرف عنها شيئًا من قبل. ونتج كل هذا بفضل التقدم العلمي المذهل وتطور علم الحفائر والبحث والتنقيب عن الآثار واستقلال منهجه عن العلوم العلوم الأخرى، وتفرغ رجال بحث ذوو مستوى رفيع وكرسوا حياتهم لشيء واحد فقط هو البحث والتنقيب عن الآثار المفقودة والمدفونة تحت باطن الأرض. وفي بحثهم هذا، اللذة والمتعة اللتان لا يعادلهما أي شيء آخر فضلاً عن أنهم ببحثهم عن الماضي لا يبحثون عن الماضي فحسب، بل إنهم يبحثون عن الإنسان وعن أسلافه الأقدمين، وبالتالي عن أنفسهم وعن تاريخهم القديم وأصولهم المنصرمة، وإمكانية تتبع كيفية كينونته ومعيشته ورصد التطور التقني والحياتي إلى وقتنا الراهن.
وأوضح لنا هذا القرن الفريد كيفية انتقال أسلافنا الأقدمين من «حياة الكهف» ومن بشر متوحشين إلى فنانين عظام صنعوا وأبدعوا رسومًا أقل ما تُوصف به أنها بالغة الروعة، وتشهد على ذلك جدران كهوف فرنسا. وهو أيضًا الزمن الذي تعمقت فيه معرفتنا بجذور البشرية بشكل يثير الدهشة ولم يسبق لنا معرفة مثيله في عمق التربة الأفريقية العريقة. وأجاب هذا القرن عن تساؤلات عديدة كانت تشغل أذهاننا لفترة طويلة من الزمن. وفي عقوده الأولى وفي العقد الثاني منه تحديدًا، اُكتشفت مقبرة الفرعون الذهبي الأشهر الملك «توت عنخ آمون». واتضح أمامنا كوضوح الشمس في كبد السماء كيفية كانت ثروة الفرعون في مصر القديمة، وكيف كان الجمال متجسدًا في آثار مصر القديمة. وهذه آثار ملك لم يحكم طويلاً ومات صغير في أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد وهو ما يزال بعد في التاسعة عشرة من عمره القصير جدًا، فما بالنا بآثار ملوك عظماء أمثال «تحوتمس الثالث» و»أمنحتب الثالث» و»أخناتون» و»سيتي الأول» و»رمسيس الثانى» العظام وغيرهم. وساهم هذا الاكتشاف في تزايد حمى «الإيجيبتومانيا» (أو «الولع بمصر» أو «الهوس بمصر») في جميع أنحاء العالم، وخصوصًا في فرنسا، بل وفي تعلق الغرب بالشرق وسحره بشكل يثير الإعجاب، على اعتبار الشرق هو الملهم وصاحب العديد من الرؤى السحرية التي يفتقدها في الغالب الغرب العقلاني.
وفي هذه المائة عام الأخيرة التي تشكل صلب هذا القرن المنصرم، تغيرت معارفنا تمامًا بأهل الماضي الذين صاغوا ماضينا التليد، وكنا نعدهم أقل تقدمنا مما كنا نتخيل. فقد اكتشفت حضارات عديدة ومقابر فريدة، وأشياء رائعة جدًا عن أسلاف البشرية الأوائل.
وفي شهر مارس من عام 1900، نجح الإنجليزى السير «آرثر إيفانس» في العثور على مدينة «كنوسوس» في جزيرة كريت، عاصمة الحضارة المينوية، وحل لغز الحضارة الإغريقية المفقودة التس بحث عنها طويلاً. وفى عقد العشرينيات بين 1920-1930، اكتشف الإنجليزى السير «ليونارد وولي» مدينة «أور» السومرية الشهيرة في العراق القديم. واستطاع بعثها من الماضي على نحو جديد مضفيًا صفحة مشرقة جديدة في تاريخ العراق القديم شديد الروعة والدهشة. وساهم اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي الصغير الملك «توت عنخ آمون» على يد الإنجليزي «هوارد كارتر» في ازدياد والتهاب الحماس والتوجه إلى الشرق، خصوصًا أنها اُكتشفت في توقيت متزامن عام 1922 مع اكتشاف «وولي» لمدينة «أور». وفي أثناء الثلاثينيات، نجح الأثري الإنجليزي الشاب «جراهام كلارك» في العثور على عظام وأدوات حجرية في بحيرة جليدية في منطقة «ستار كار» في شمال شرق إنجلترا. وأرجع هذه الآثار المكتشفة إلى العصر الحجري معطيًا إياها تأريخًا يرجع إلى حوالى عشرة آلاف عام قبل الآن. ثم كانت المفاجأة الكبرى التي فجرها لويس ليكي وزوجته ماري ليكي عام 1955م بالعثور على بقايا إنسان «أوسترالوبيثكوس» (الإنسان الأول المبكر) في أخدود «أولدفاي» في شمال تترانيا في أفريقيا. وأرخت هذه البقايا بـ 1.750.000 سنة مضت.
ويحتفل القرن العشرون بأسماء العديد من الأثريين والعلماء الذين صنعوا مجده وبهاءه العلمي عبر إنجازتهم واكتشافتهم الفريدة. وإضافة إلى ماذكرنا، نذكر جورج باص «أبو الآثار البحرية»، ودونالد جوهانسون، وموتيمر وليلر، ولويس بنفورد، ووليام فلندرز بتري، صاحب الاكتشافات الكبيرة في مصر ومحيطنا العربى و»أبو المدرسة الحديثة فى علم المصريات»، وويلارد ليبي. وحققوا هؤلاء نجاحات هائلة في حقل الآثار. ونظرًا لكثرة الاكتشافات والمكتشفين، فإننا سوف نذكر أهم هذه الاكتشافات التي غيرت مجرى تاريخ البشرية منذ لحظة اكتشافها على سبيل المراجعة وإلقاء الضوء عليها بعد أن فارقنا القرون العشرون.
اكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون» قبل ضياع آخر فرصة!
في الرابع من شهر نوفمبر عام 1922، كان الإنجليزي «هوارد كارتر» على موعد مع الرمال المصرية لتمن عليه وتكشف له عن واحد من أهم أسرارها الدفينة. لقد استطاع أن يحقق حلم حياته بعد طول عناء وتعب بالكشف عن مقبرة الفرعون الذهبي الأشهر الملك «توت عنخ آمون»، ذلك الأثر الفريد من نوعه الذي أذهل العالم كله منذ وقت اكتشافه إلى هذه اللحظة، والذي طغى على كل الاكتشافات الأثرية الأخرى في العالم أجمع، وأصبح أهم اكتشاف أثرى بحق في القرن العشرين دون أدنى مبالغة.
وانطلقت أسطورة الملك «توت» تغزو أرجاء العالم كله، وأصبح الفرعون الشاب الذي لم يجلس على العرش أكثر من تسع سنوات، بين عشية وضحاها، أشهر ملك في تاريخ الإنسانية وكتب لاسمه الخلود.
ولقد ثبت من دراسة مقتنيات مقبرة الملك «توت» التي أبهرت العالم أجمع أنها لم تكن تخص وحده، بل كان أغلبها من مقتنيات أسلافه الملوك: والده «أخناتون» العظيم، والملك «سمنخ كارع»، والملك «آي». وتم تجميعها على عجل لاتمام مراسم دفن الملك الشاب الذي مات بالملاريا إثر سقوطه من فوق عربته الحربية في صحراء الجيزة. ولقد ألهبت هذه المقتنيات والطريقة التي اُكتشفت بها خيال الباحثين والمولعين بالآثار وأساطيرها على السواء، فنسجوا العديد من القصص والحكايات حول حياة الملك ووفاته ومن هنا نشأت أسطورة «توت» بل ما يُعرف خطًأ بـ»لعنة الملك توت عنخ آمون».
وتعتبر مقبرة الملك «توت عنخ آمون» هي المقبرة الملكية الوحيدة التي وصلت إلى أيدينا كاملة إلى الآن. فبعد وفاة الملك «توت» بمائتي عام، قام عمال مقبرة الملك «رمسيس السادس»، من ملوك الأسرة العشرين، دون قصد، برمي الأحجار والرمال المستخرجة من حفر مقبرته فوق مدخل مقبرة «توت عنخ آمون»، بل شيدوا أكواخهم فوق هذا الرديم. ولولا هذه المصادفة العجيبة لما نجحت مقبرة الفرعون الشاب من أيدي لصوص المقابر من كل زمان، ولما وجدها «كارتر» في صبيحة الرابع من نوفمبر عام 1922 بعد بحث مضنٍ دام خمس سنوات طوال.
وتبدأ القصة في عام 1917م، عندما حصل اللورد «هربرت إيرل كارنافون الخامس» (1866- 1923م) على موافقة مصلحة الآثار المصرية على التنقيب في وادي الملوك. وكان حلم «هوارد كارتر» (1873- 1939م) هو العثور على مقبرة الفرعون الصغير «توت عنخ آمون» بين مقابر وادي الملوك. فطلب اللورد «كارنافون» من «كارتر» أن يجري الحفائر لحسابه في الوادي. وكان «كارتر» يتمتع بسمعة أثرية كبيرة فقد سبق له اكتشاف مقبرة الملك «تحتمس الرابع» عام 1903م بمساعدة الأمريكي «تيودور ديفيز».
وبدأت الحفائر في العام نفسه، ومضى دون أية نتائج مشجعة. وتذكر «كارتر» كل ما قاله أسلافه علماء الآثار السابقون أمثال «جان-فرانسوا شامبليون» و»جاستون ماسبيرو» و»جيوفاني بلزوني» من أن الوادي قد لفظ كل ما بداخله.
ولم ييأس وواصل العمل. فقد كانت ثقة «كارنافون» تدفعه وحبه وصبره يشدان من أزره الذي لا يلين. واستمر الحفر خمس سنوات أخرى دون نتائج مرجوة. ومر صيف عام 1922م دون نتيجة. وكان إيمان «كارتر» كبيرًا بأنه سوف يعثر على مقبرة الملك الصغير ذات يوم. وبدأ اللورد «كارنافون» يقنط ويهمل الأمر كلية ويدعه جانبًا. فطلب «كارتر» منه أن يمنحه فرصة أخيرة: هذا الموسم الذي سوف يبدأ في نوفمبر 1922م. واستمر الحفر في مساحة صغيرة مثلثة الشكل أمام مقبرة الملك «رمسيس السادس» لم يسبق الحفر فيها. لقد كان «كارتر» في مأزق حقيقي إن لم يعثر في هذا الموسم الأخير على هذه المقبرة، فسوف يرحل اللورد إلى انجلترا ويفقد التمويل المادي وسوف تذهب جهوده المضنية لسنوات طوال وأحلامه أدراج الرياح.
لم يكن «كارتر» يعلم أن صباح الرابع من نوفمبر هو يوم مجده الحقيقي. يقول «كارتر» في كتابه الممتع عن مقبرة الملك «توت عنخ آمون» في معرض حديث عن ظروف الاكتشاف: «هذا هو بالتقريب الموسم الأخير لنا في هذا الوادي بعد تنقيب دام ست مواسم كاملة. وقف الحفارون في الموسم الماضي عند الركن الشمالي الشرقي من مقبرة الملك «رمسيس السادس». وبدأت هذا الموسم بالحفر في هذا الجزء متجهًا نحو الجنوب. كان في هذه المساحة عدد من الأكواخ البسيطة التي كان يستعملها كمساكن العمال الذين كانوا يعملون في حفر مقبرة الملك «رمسيس السادس». واستمر الحفر حتى اكتشف أحد العمال درجة منقورة في الصخر تحت أحد الأكواخ. وبعد فترة بسيطة من العمل، وصلنا إلى مدخل منحوت في الصخر بعد 13 قدمًا أسفل بداية فتحة المقبرة. كانت الشكوك وراءنا بالمرصاد من كثرة المحاولات الفاشلة، فربما كانت مقبرة لم تتم بعد، أو أنها لم تُستخدم، وإن اُستخدمت فربما نُهبت في الأزمان الغابرة، أو يُحتمل أنها مقبرة لم تُمس أو تُنهب بعد. كنا في يوم 4 نوفمبر 1922».
ثم أرسل «كارتر» برقية سريعة إلى اللورد «كارنافون» يقول فيها: « أخيرًا، اكتشاف هائل في الوادي، مقبرة كاملة بأختامها، كل شيء مغلق لحين وصولك. تهانينا».
وهكذا سقطت مزاعم علماء الآثار أمثال: «شامبليون» و»بلزونى» و»ماسبيرو» ممن عملوا في وادي الملوك وزعموا أنه لم يعد هناك شيء في بطنه. ثم توالت بعد ذلك مراحل الكشف الأخرى إلى أن تم نقل محتويات المقبرة إلى المتحف المصري في القاهرة لتظل شاهدة على حضارة لم ولن تندثر أبدًا.
وفي النهاية أردد مع «كارتر» قوله: «مازال الغموض في حياة الملك «توت عنخ آمون» يلقى بظلاله علينا، فعلى الرغم من أن تلك الظلال تنقشع أحيانًا، فإن الظلمة لا تختفي من الأفق أبدًا».
وهكذا تأكد ويتأكد للعالم كله كل يوم أن الرمال المصرية لم تبح بكل أسرارها بعد وما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار الرائعة في بطنها لأجيال عديدة قادمة من علماء الآثار حتى تظل مثيرة للدهشة إلى أقصى درجة ممكنة إلى أن يرث الله الأرض ما ومن عليها. وفي الحقيقة، إن هذا هو شأن أصيل من شئون الحضارة المصرية القديمة العريقة.