بقلم: ادوارد ثابت
2- وإذا كان نظام عبد الناصر قد دفع الإذاعة إلى إذاعة أغنية الفن هكذا خالصة ، ومنع أغنية الشباب كلها . فإن هذه الأغنية (ليلة العديد) قد تغيرت بعض ألفاظها أو غيرتها أم كلثوم أكثر من مرة ، فقد كان أحمد رامي قد كتبها لفيلم (دنانير) الذي مثلته أم كلثوم مع سليمان نجيب وعباس فارس وأخرجه أحمد بدرخان عام 1940 والفيلم يحكي عن عصر الخليقة العباسي هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي الذي يسمع ويرى دنانير تغني في البادية فيعجب بصوتها فيصحبها إلى قصر الخليفة ببغداد فيسمعها الخليفة فيفتنه صوتها حتى تصير المغنية الرئيسية في قصره . وفي حفل بالفيلم تغني أم كلثوم أو دنانير هذه الأغنية ليلة العيد فتمدح في نهايتها كما كتبها أحمد رامي هارون الرشيد والوزير جعفر ، وتمدح معهما نهر دجلة الذي يمر ببغداد . تقول الأغنية :
ياليلة العيد أنستينا وجددت الأمل فينا يا ليلة العيد
هلالِك هل لعنينا فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد ها يجينا على قدومِك يا ليلة العيد
جمعتِ الأنس ع الخلان ودار الكاس على النُدمان
وغنى الطيرعلى الأغصان يحيَّ الفجر ليلة العيد
حبيبي مركبه تجري وروحي في النسيم تسري
قولوا له يا جميل بدري حرام النوم في ليلة العيد
يا نور العين يا غالي يا شاغل مهجتي وبالي
تعال أعطف على حالي وهني القلب ليلة العيد
يا دجلة مَيتك عنبر وزرعك في الغيطان نوَّر
يعيش هارون يعيش جعفر ونحي لهم ليالي العيد
وقد حذفت الأغنية كلها من الفيلم بعد أن غنتها أم كلثوم به . فما أن تغنيها بعد ذلك أمام الملك فاروق في ذلك الحفل حتى تبدل في ألفاظها بعض التبديل . بدأت تغني بعد أن عزفت الفرقة الموسيقية مقدمة الأغنية : يا ليلة العيد أنستينا يا ليلة العيد فأخذت تكرر هذا السطر أكثر من مرة لمعرفتها أن الملك سيقبل إلى الحفل فما أن يقدم حتى تتوقف عن الغناء ويصفق الجمهور ويقول المذيع : شرَّف حضرة صاحب الجلالة ، ويهتف فرد من الأفراد يتبعه الجمهور في هتاف يصيحون فيه : يعيش جلالة الملك – يحيا ملك مصر والسودان عاش الملك – يحيا الملك – مصر للملك – شعب مصر للملك – يعيش فاروق ملك مصر والسودان . وتعزف الفرقة الموسيقية الأغنية واثناءها يقول مذيع الحفل : سيداتي وسادتي ، هذه الهتافات التي سمعتموها وهذا التصفيق ، وهذا التهليل ، وهذا الأستقبال الرائع كان لحضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم حفظه الله ، فقد نفح شعبه حفظه الله بأن حضر وشرف بحضوره هذه الحفلة . وتغنى أم كلثوم فتبدل في الفاظ الأغنية فبعد يا ليلة العيد أنستينا وجددت الأمل فينا يا ليلة العيد بدلاً من أن تقول : هلالِك هل لعنينا فرحنا له وغنينا بكسر حرف اللام في هلالك معطوفة على ليلة العيد وقلنا السعد ها يجينا على قدومِك يا ليلة العيد بكسر حرف الميم في قدومك معطوفة على ليلة العيد .
تقول : هلالك هل لعنينا بفتح حرف اللام معطوفة على الملك
وقلنا ثم وبكرة السعد هايجينا بفتح حرف الميم معطوفة على الملك
فما أن تغني هكذا حتى يصيح الشعب فيهتف ويكرر : يعيش جلالة الملك وتستمر فتغني كل الأغنية حتى تقول :
يا نــور العين يـا غـالي يا شاغل مهجتي وبالي
تعال أعطف على حالي وهـني القـلب ليلة العيد
فتطيل فيه وترجع في إحساس وحنو وكأنما تلقي حديث إلى الملك
وما أن تاتي إلى نهاية الأغنية حتى تبدل في ألفاظها فتغير
يا دجلة ميّتك عنبر وزرعك في الغيطان نوَّر
يعيش هارون يعيش جعفر ونحن لهم ليالي العيد
فتغني : يا نيلنا ميّتك سكَّر وزرعك في الغيطان نوَّر
يعيش فاروق ويتهنى ونحن له ليالي العيد
فما أن تقول هذا حتى يهتف فرد من الجمهور يصيح بعده : يعيش الملك زعيم البلاد – يعيش الملك في حكم الأستقلال – يعيش فاروق ملك مصر والسودان . ثم تعزف الفرقة الموسيقية مقدمة أغنية ثانية هي (حبيبي يسعد أوقاته) التي كتبها بيرم التونسي ولحنها زكريا أحمد عام 1944 ، والتي تقول بدايتها :
حبيبي يسعد أوقاته ع الجمال سلطان
في نظرته وأبتسامته فرحة فرحتك يا زمان
ولكن أم كلثوم لم تغنّ هذا المقطع ، وإنما تغني فقط الجزء الأخير منها الذي يقول :
حبيبي زي القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد
حبيبي زي القمر يبعت نوره من بعيد لبعيد
زي القمر بس جماله كل يوم يزداد
وكل ما يهل هلاله تنعاد الأعياد
والليلة عيد ع الدنيا سعيد
عز وتمجيد لك يا حبيبي
فتطيل في هذا الجزء وتُرجَّع في غنائه وخاصة (حبيبي زي القمر) وكأنما تلقيها وتوجهها إلى الملك ، وتبدل السطر الأخير منه فتقول : عز وتمجيد لك يا مليكي لك يا مليكي . ويصفق الجمهور ويهتف للملك فيعلن مذيع الحفل ويقول : كل هذا الهتاف الذي سمعتموه ، وكل هذا الأستقبال الرائع وكل هذا الحماس وهذا التصفيق هو لحضرة صاحب الجلالة الملك المحبوب وقد شرف بحضوره هذه الحفلة ، فما أن رأى جلالته الحاضرون حتى سمعتم ما وصل إلى آذانكم من الأستقبال الرائع ، ومن الحماس ومن الهتاف الذي خرج من القلوب ومن الحناجر ، وقد جلس جلالته حفظه الله وأستمع إلى غناء الآنسة أم كلثوم وكان حفظه الله يشجعها – ثم يعلن ويقول : الآن الآنسة أم كلثوم حضرت لتتشرف بتحية جلالة الملك .. وها هي تحييه .. فيهتف الجمهور : يعيش جلالة الملك – يعيش فاروق ملك مصر والسودان – عاش الفاروق خير البلاد . ثم يقول : تعطف حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المحبوب الديمقراطي حفظه الله بعد أن صافح الآنسة أم كلثوم بأن أذن لها بالجلوس إلى جوار جلالته .. ويعلن : أعلن أحد أعضاء النادي الأهلي أن حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المحبوب قد تعطف فمنح الآنسة أم كلثوم نيشان الكمال ثم غادر جلالته الأحتفال مشيعاً بمثل ما أستقبل به من التهليل والتبجيل. وتتقدم أم كلثوم إلى المسرح وتعلن للجمهور فتقول : سيداتي سادتي تعطف حضرة صاحب الجلالة مولاي الملك المحبوب بتشريفه هذه الحفلة فوق ما تستطيع أن تعبر عنه الألفاظ ، أما تعطف جلالته بالأنعام السامي علىَّ فأني لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن شعوري به ، وأني أضرع إلى الله أن يمد في عمر الفاروق ويحفظه للبلاد زخراً وللفن نصيراً . وبعد أنتهاء الحفل يقول مذيع محطة الإذاعة : سيداتي سادتي – لقد أذعنا لحضراتكم أن حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المحبوب قد شرف الحفلة في الوصلة الثانية لكوكب الشرق الآنسة أم كلثوم وبد أن انتهت الآنسة أم كلثوم من الغناء تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك فأنعم عليها بوسام الكمال وذلك تقديراً لفنها الرفيع ، وقد هنأ حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك حضرات الموجودين وقال لهم كل عام حضراتكم بخير . وبهذه المناسبة نحن نهتف عالياً ونقول يحيا جلالة الملك وكما أننا بهذه المناسبة السعيدة نهنئ كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم بهذا الأنعام العالي . وقد حجبت الإذاعة تسجيل هذه الأغنية كما غنتها أم كلثوم أمام الملك فاروق وتسجيل الحفل معها . ولكن أغنية ليلة العيد من الأغاني الرشيقة التي تشع البهجة عندما تُسمع في ليالي العيد من كل عام فلم تستطع الإذاعة ولا النظام أن يحجبها كلها ، فإذا هو يذيع الجزء الأول منها فقط ، ويتكرر هذا الجزء أكثر من مرة ، وإذاعتها أم كلثوم بعد ذلك في تسجيل إذاعي فهي تغني ناقصة ، وعندما غنتها في حفلة عامة تغير في ألفاظها فلا تقول الجزء الأخير منها دجلة ولا هارون ولا جعفر أو فاروق
وإنما تمدح النيل وتدعو له وللشعب فتغني
يا نيــلنا ميّتك سكـــر وزرعك في الغيطان نور
تعيش يا نيل ونتهنى ونحــن لك ليــالي العيـد
أما أغنية حبيبي يسعد أوقاته فقد حذف الجزء الأخير منها فغدت تغني ناقصة وعندما تغنيها أم كلثوم في حفلة مذاعة تغير في ألفاظها قليلاً فبدلاً من أن تقول عز وتمجيد لك يا مليكي أو عز وتمجيد لك يا حبيبي تقول عز وتمجيد وأنت حبيبي . لقد عرف بعد بحثه هذا ماذا فعل النظام السياسي بأغنيتي محمد عبد الوهاب (الفن) و(الشباب) ، وماذا فعل وفعلت أم كلثوم مضطرة بأغنيتها ليلة العيد وحبيبي يسعد أوقاته . ولم تسلم الأفلام السينمائية في ذلك الوقت من مثل هذا التغيير والتبديل أو الحذف والتزييف فقد كان يشاهد الأفلام التي تنفذ باللونين الأبيض والأسود قبل أن تنتشر الألوان في السينما ، فما أكثر ما يلاحظ فيها أن بعض المشاهد أو اللقطات منها قد حذفت أو تغيرت أو وضع عليها ما يخفي بعض الملامح منها ، ومثل ذلك ما كان يراه فيها عندما تبدو صورة الملك فاروق معلقة على الحائط وقد وضعت عليها خططوط سوداء تطمس ملامحها ، وينجلي ذلك في فيلم من اشهر الأفلام المصرية هو غزل البنات وفي المشهد الذي يغني فيه محمد عبد الوهاب أغنية عاشق الروح فبدت صورة الملك في خلفية اللقطة وقد شوهت هذه الخطوط السوداء صورته فطمست ملامحها . كان يستغرب لذلك ويتساءل هل تلك الخطوط تزيل الصورة أو تمحوها من المشهد ؟ لم تستطع ان تزيلها ولا أن تمحوها بل على العكس تؤكدها ولا سيما أن الخطوط كانت تتذبذب مع حركة الشريط السينمائي عند عرضه بآلة العرض مما يلفت الأنتباه إليها . ولكن بعد أن تغير هذا النظام أحس النظام الجديد أن هذا التشويه فيه من السخف الذي لا داعي له ، وفيه من السخط المبالغ فيه فازيلت من مشاهد هذه الأفلام تلك الخطوط التي تطمس صورة الملك فشاهدنا بعد ذلك فيلم غزل البنات يغني فيه محمد عبد الوهاب هذه الأغنية وفي خلفية المشهد صورة الملك فاروق وقد محيت منها تلك الخطوط فبدت جلية ناصعة . نعم ، قد تزيف بعض النظم السياسية الفن ، ولكن التاريخ لا يكذب .