منتصف الليل في الصحراء، جانبني النوم فجلست على الرمل و أسندت ظهري لصخرة و انطلقت أفكاري، هناك برودة منعشة في الجو، السماء صافية و النجوم كثيرة و قريبة، غريبة هي الصحراء، مثل الحياة، أحيانا ـ كالآن ـ هادئة جميلة غامضة و شاعرية، لكن ساعات معدودة و ستصبح عارية قاسية و أحيانا قاتلة.
الجنود نائمون غير بعيد مني، هؤلاء هم جنودي رجالي و مسئوليتي، مسئولية! الكلمة قاسية و سخيفة، مشاعر سلبية غلابة تنتابني. المصيبة أنني لا أستطيع أن أفـْصِح لأحد عن هذه المشاعر فأنا الضابط النقيب القائد، و إن كنت لا أدري أقودهم لأين. إتصال اليوم بالقيادة كان كالمعتاد عبارة عن توجيهات روتينية، فعلينا أن نواصل السير حتى نصل، علينا أيضا أن نحارب الأعداء، و أن نحافظ على الضبط و الربط بين الجنود و أن نحتفظ بروحهم المعنوية عالية. علينا أن نقوم بكل هذا في ظروف غاية في الصعوبة فالطعام قليل و الماء شحيح و الذخيرة محدودة
أصبو إلى الأيام الماضية، معيشتي وسط أسرتي، نومي على فراشي، جودة الطعام المتوفر سواء في المنزل أو المطاعم العديدة التي إعتدت إرتيادها، جلستي في النادي مع أصدقائي و صديقاتي، تجولي في شوارع مدينتي. المشكلة أن المواضيع هنا غير محددة، لا أدري كم من الوقت مر علي أنا و رجالي في هذا التيه و لا متى سينتهي ضياعنا و كيف، المفروض أن أعود مع هؤلاء الضائعون للقيادة، القيادة أصبحت بالنسبة لي شيءً غامضا، عندما أتصل بهم لا أدري من على الطرف الآخر الذي يقرر و هل يضع ظروفنا في الاعتبار و هل هو قادر على المساعدة، نحتاج لإمدادات لكنها لا تصل، نحتاج لتوجيهات محددة عن الطريق الذي نسلكه لكن التوجيهات عديمة الفائدة تركز عل المثابرة و الضبط و الربط. ترى هل القيادة مشغولة عنا لأن عندها ما هو أهم؟ لا أدري.
الرجال مجندون مستكينون، و هل في استطاعتهم غير ذلك، الملازم أول الشاب الذي يليني في الرتبة، تُرى ما الذي يدور في رأسه؟ أقـَدِر فيه أنه يحاول أن يكون إيجابيا و هذا عمل بطولي باعتبار الواقع المحيط بنا. لَمَـّح لي ثم صَرّح بأن علينا الاعتماد على أنفسنا و عمل ما فيه مصلحتنا بغض النظر عن أي إعتبار آخر، كان يقصد ألا نـُعَول كثيرا على مساعدة القيادة و ألا نعطي أهمية كبيرة لتوجيهاتهم. قد تكون أراءه هذه راجعة لخلفيته، فهو إبن المدينة، أسرته من الطبقة المتوسطة، جامعي، جُنِد كضابط مفروض لفترة محددة، لكن حظه العاثر جعله عضوا في هذه الفصيلة الضائعة، في علاقتي به أحاول أن أحفظ شيء من التوازن بين علاقة قائد بأحد رجاله و بين مستوى من الصداقة أحتاج أنا له.
شاويش الفصيلة أو العريف، جندي محترف، في العقد السادس فهو أكبرنا عمرا، يفتخر بكونه فردا في القوات المسلحة التي خدم بها ثلاثون عاما. أكيد الجيش يعني الكثير له، قد يكون هو المنقذ له من الفقر و الفاقة المحيطان بقريته هناك في أعماق الريف. العريف هو رجل الضبط و الربط في مجموعتنا البائسة هذه ، له فلسفة أفصح لي عنها فهو يعتقد أن التخلي عن الضبط و الربط سيقود الفصيلة إلى مأساة، لن أستطيع التحكم في المجندين مما قد يقود إلى تمرد، يرى أنه يجب تذكيرهم دائما بمن هو القائد المسئول. يرى أن الضبط و الربط هو علامة الطاعة المطلقة التي تحتاج لها الفصيلة للنجاة من هذا التيه. لذلك فهو المؤمن تماما بالقيادة على الطرف الآخر و كل ما يصدر عنها بالنسبة له مقدس. يُخَيل لي أحيانا أنه يجد متعة ما في واقعنا البائس هذا في ضياعنا. هل هذا ممكن؟
أتعبتني أفكاري و مشاعري، ترى هل أنا أكثر حساسية من غيري؟ أكثر حساسية من المفروض في ضابط و قائد لمجموعة من الضائعين. يغلبني النعاس فأنام.
صباح يوم جديد، إسْتـَيـْقَظتُ متكاسلا، العريف يؤدي الطقوس اليومية التي هو مصمم عليها، طابور الصباح، التفتيش على الجنود، التأكد أن ملابسهم مهندمة و ذقونهم محلوقة و منظرهم العام يليق بجنود في قوات الوطن المسلحة، الأهم أن أسلحتهم الشخصية نظيفة وجاهزة.
الملازم أول على وجهه نظرة محايدة، يبدو غير متحمس و هو يأخذ التمام من العريف ثم يعطيه لي. كنت قد أخبرته من قبل أن العريف مـُحـِق إلى حد ما في أسباب حرصه على الضبط و الربط بين أفراد الفصيلة، رد بأن طريقة التعامل مع المجندين يجب أن تراعي الظروف التي يمرون بها و التي هي ليست تقليدية، فهم ليس في معسكر أو على جبهة قتال لكنهم ضائعون في صحراء لعينة. أتـَفـَهـَم موقف كل منهما، لكني في الوقت الحالي قررت أن أدع الأمور تسير كما هي.
كالمعتاد إعتمدنا على إتجاه شروق الشمس و سرنا شرقا، العريف يقود المجندين في خطوات عسكرية منتظمة بينما أنا و الملازم أول في المقدمة، لا أدري هل سنصل إلى غايتنا اليوم ؟ أو هل سنصل إليها في أي يوم، هل سيكتشف العدو وجودنا و يهاجمنا؟ قرب منتصف النهار توقفنا للراحة. نحاول الاتصال بالقيادة و هو الطقس اليومي الذي ـ رغم اقتناعي أو عدمه ـ نقوم به وفقا للتعليمات، هناك صعوبة في الاتصال، نحاول عدة مرات دون جدوى، يقترب العريف من جهاز الاتصال، يبسمل و يتمتم ببعض الأدعية، بعد عدة محاولات ينجح، ملامح الفخر و الحبور على وجهه لنجاحه، هو رجل اللحظة، تأتي تعليمات القيادة معادة مثل كل يوم، يجب علينا الثبات و المثابرة، ألا ننسى أننا أفراد في القوات المسلحة و هذا يجب أن يكون مبعث فخرنا، علينا أيضا أن نشتبك مع العدو و ننتصر عليه، ستحاول القيادة مساعدتنا و حتى ذلك الحين علينا أن نوفر طعامنا و شرابنا من البيئة المحيطة. إحساسي متبلد تجاه هذه التعليمات، لكن لا يجب و لا أود أن أنقدها أمام أحد، أجدها ببساطة عديمة الجدوى و تضع عبئا علي و على رجالي، رغم ذلك لا أستطيع ـ حتى بيني و بين نفسي ـ أن أتمرد أو أتخيل أني أتمرد على القيادة، بالتأكيد يرجع ذلك إلى نشأتي العسكرية و سنين عملي بالقوات المسلحة. القيادة، ليتهم يقولون لي “تصرف أنت”.
نواصل السير، أتوق إلى رؤية غايتي، المباني الطيبة و أمامها المجرى المائي الحميم، حدث مرتين من قبل أن شاهدت ما اعتقدت أنه الغاية، المدينة المألوفة تبعد عني كيلومترات قليلة، لكن كان ذلك و لألمي و حيرتي سرابا. ترى هل هناك طريقة سريعة سهلة للتفريق بين السراب و الواقع. ليتني أعرف الجواب.
قرب الغروب هناك مجموعة تلال على يميننا، يقترح العريف أن يصعد لقمة أعلاها ليستكشف إذا كان هناك قوات للعدو في الناحية الأخرى فنتعامل معها، يهم الملازم أول بالاعتراض، أكيد إعتراضه سيكون بحدة مسفها إقتراح العريف، أشير له كي يصمت ثم أقول للعريف بحزم:
ـ لسنا في موقف يسمح لنا بالبحث عن العدو و مهاجمته، هدفي الأول المحافظة على أرواح الرجال و العودة بهم سالمين.
لم يرد و إن كان بدا على وجهه عدم الاقتناع.
ينتهي يوما مرهقا، ترى كم كيلومترا سرنا، و الأهم هل سرنا في الاتجاه السليم؟
صباح يوم آخر، هناك هرج و مرج بين الجنود، يصيح بهم العريف كي يلتزموا الهدوء و الضبط و الربط، يقفون في طابور الصباح قلقون، ثلاثة منهم يشكون أن أسلحتهم غير موجودة، عند أخذ التمام نجد أن أحد المجندين غائب، ألقي نظرة حول موقع نومنا، هناك آثار أقدام متجهة ناحية الجنوب، الآثار تبدو عميقة مما يدل على أن صاحبها كان يحمل حملا نسبيا ثقيلا، ثلاث بنادق يخصون رفاقه في الفصيلة.
أرسلت إثنين من المجندين و معهم العريف لمطاردة الهارب و العودة به، العريف متحمس للمهمة، فعلا عند منتصف النهار يعودون و معهم المجند الهارب، يبدو مثل فأرا وقع في المصيدة، حائرا خائفا مستسلما مذعورا. يبدو غاية في الجهل و قلة الحيلة، هل أدرك ما ينتظره؟
عند إتصالنا بالقيادة ذكرنا الواقعة فكان الرد كما توقعت تقديمه لمحاكمة عسكرية ميدانية و تنفيذ الحكم فيه فورا.
عبء نفسي جديد. خلال سنوات خدمتي في القوات المسلحة سمعت عن المحاكمات العسكرية لكني لم أشارك في أي منها. الآن علي أن أرأس إحداها و أنفذ الحكم، أنفرد بالعريف و أسأله عن شخصية الهارب فهو بالنسبة لي مجرد فرد بائس في مجموعة بائسة، يخبرني بلهجة العليم ببواطن الأمور أنه لاحظ فيه أنه وحيدا، لم تنشأ بينه و بين أي زميل مجند صداقة عكس جميع الآخرين حيث صعوبة ظروفهم دعمت أواصر الصداقة بينهم، الهارب أيضا كان يميل للأنانية، يُلاحـَـظ ذلك عند إقتسام الماء و الطعام المحدودين. أسأل نفسي هل في مثل ظروفنا هذه المفروض أني كقائد أعرف تفاصيل حياة و مشاعر هؤلاء التائهين و أحاول أن أخرج أحسن ما فيهم كآدميين و أن أُقَوِّم سلوك و تصرفات ضعاف النفوس منهم؟ أوجعني السؤال فلم أفكر في إجابته.
أثناء المحاكمة عندما سألته عن الدافع لفعلته قال بلهجته الريفية:
ـ كنت خايف يا فندم، التوهان طـَــِوِل عَلـَيـّـة، أهلي في البلد أكيد عاوزيني، أهلي فقرا، فكرت أبيع البنادق للبدو و أطلب منهم مساعدتي في الرجوع، جايز بيعرفوا أكتر مننا، كنت خايف يا فندم.
الرجل في منتهى الجهل و الغباء، اختار أن يضيع بمفرده بدلا من ضياعه معنا وسط أقرانه. استمعت إليه صامتا ثم حكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص لسرقته الأسلحة و هروبه.
شمس الصحراء ساطعة قوية حارقة أكثر من المعتاد، كأنها اللعينة تراقب المشهد من عـَلِـيْ و تقول لي “أرني ماذا ستفعل الآن، هل بإمكانك العفو عن هذا البائس؟ أم أنك مـُـسَـيـَر و ستنفذ الأوامر مثل الآلة؟ آلة قتل حتى لو سميته إعدام”. عندما حانت لحظة تنفيذ الحكم نظرت للمجموعة، ترى ما الذي يدور في أذهانهم؟ هل كل منهم يحمد ربه أنه ليس هو من سيـُعدَم؟ هل سيكون إعدامه درسا لهم حتى لا يكرروا الفعل الذي إرتكبه الهارب؟ هل أي منهم لا يأبه لمصير هذا البائس لكونه عديم الأصدقاء و أناني؟ ملامح وجوههم عديمة التعبير، لكني أشعر بجو عام من الحزن و عدم التصديق يخيم عل الجميع، أكيد يرددون لأنفسهم “ألا يكفي الهم الذي نعانيه، هل كـُـتـِبَ علينا أيضا أن نعاني هذا الموقف”، أم أن هذا ما أردده أنا لنفسي؟
تطوع العريف بأن يقوم بإطلاق النار عليه، لكني رفضت و اخترت الثلاثة مجندين الذين سُرِقـَت بنادقهم كفريق إعدام. كانت كلمات الهارب الأخيرة: كنت خايف يا فندم، أمي عاوزاني. لن أنسى ما حييت ملامح الرعب على وجهه، و لا رفعه ليديه أمام وجهه كأنه يحميه من الرصاصات القادمة، ثم إنتفاضات جسده و الرصاصات تخترقه.
بعد دفن الجثة وسط وجوم الجميع قررت بسرعة بداية السير كي أأخذ تفكير و انتباه أفراد الفصيلة بعيدا عن الواقعة بقدر الإمكان. بينما أنا نفسي لا أستطيع التوقف عن التفكير المحموم فيما حدث و في ضياعنا اللانهائي.
نواصل المسير لعدة ساعات، الشمس خلفنا تهبط للمغيب، رغم كل شيء و كل المشاعر السلبية، المنظر جميل، سماء الصحراء الصافية تكتسب لونا رائعا، الجو خفت حدة حرارته و أصبح منعشا، غريب، هناك لحن أغنية عاطفية مرحة يتردد في رأسي، لولا الملامة و لولا مركزي كنقيب قائد لهؤلاء الرجال لارتفع صوتي بالغناء. فجأة أرى في الأفق الشرقي منازل المدينة و المجرى المائي، منظر حالم رائع، أكاد أصيح من الفرحة، أنظر للرجال حولي يبدو أنهم لا يرون المدينة، لا أدري هل أنا بصري أكثر حدة منهم فهم لا يرون ما أرى، أم أن ما أرى ما هو إلا سراب.