بقلم: نعمة الله رياض
وصلت سيارة الترحيلات إلي السجن الموجود في منطقة صحراوية نائية ،كانت الحراسة عليه مشددة ، نزل من السيارة ثلاثة من المسجونين الجدد المحكوم عليهم بمدد طويلة وهم مقيدين بالاصفاد .. تم إقتيادهم للمخزن حيث إستلموا ملابس السجن وللمكاتب الأخري حيث تم تصويرهم وأخذ بصماتهم .. تم إطلاقهم في فناء السجن مع باقي المساجين في فترة الراحة والرياضة..
إستقبلتهم عصابة من المساجين الذين فرضوا سيطرتهم علي باقي النزلاء ، بالحفلة المعتادة لكل مسجون جديد،لإخضاعهم وكسر إرادتهم ، ذاقوا خلالها من الصفع واللكمات والضرب بالأرجل في جسدهم مما جعلهم يصرخون من شدة الألم،هرع الحراس وخلصوهم من أيديهم. وإقتادوا النزلاء الجدد لزنازين فردية .
تكور وجدي أيوب بجسمه النحيل في زنزانته يلعق جراحه وهو يتذكر ما أوصله إلي هذا المكان التعيس .. لقد نِشأ في أسرة متوسطة الحال ، ليس له سوي والدته وشقيقته الكبري المقبلة علي الزواج ،تخرج من كليه الطب بتقدير ممتاز وعين معيدا» في الكلية بمرتب هزيل لم يتمكن به من الصرف علي علاج والدته التي تعاني من الفشل الكلوي..
في لحظة تهور غير محسوبة العواقب ، ومغرورا بذكائه ، ورغبة منه في الحصول علي المال بأي طريقه ، خطط للسطو علي محل مجوهرات.. اختار محلا» في شارع هادئ وفي منطقة كائنة بحي راق، درس وتابع بدقة تحركات صاحب المحل والحارس المسلح الذي يرافقه لعدة أيام . إشتري مسدسا» كاتما» للصوت وتدرب على إصابة الهدف بدقه ، لم يكن ينوي استخدامه سوي للتهديد أو للدفاع عن النفس.. وفي يوم إختاره بعناية ، وضع شعرا» مستعارا» علي رأسه وشارب لصقه تحت أنفه ونظارة سوداء علي عينيه . ولبس قفازات شفافة وعند مشاهدته للصائغ في نهاية اليوم ، وهو يجمع المجوهرات من أرفف العرض لوضعها في الخزانة ، دخل المحل وهدده بالمسدس،أمره بجمع المجوهرات من الخزانة الحديديه ووضعها في حقيبة جلديه كبيرة ، جمع الصائغ كل المجوهرات في الحقيبة وسلمها لوجدي فأمره برفع ذراعية عاليا والالتفاف نحو الحائط . استدار هو أيضا في اتجاه باب المحل للمغادرة ، لكنه شاهد في المرآة المثبته علي الجدار الصائغ يتحرك بسرعة ويأخذ مسدسا من الدرج فعاجله وجدي برصاصة صرخ علي أثرها بصوت عالي وسقط قتيلا. عندما سمع الحارس الضجيج، دخل مسرعا» شاهرا» مسدسه ليفاجئ بمن يطلق عليه الرصاص فأصيب وسقط علي الأرض فاقد الوعي . خرج وجدي بهدوء حاملا الحقيبة بلا اكتراث لكاميرات المراقبة ، فقد غير مظهره بما فيه الكفاية ..
ولإنه لا توجد جريمة كاملة ، فرغم علمه بأنه قد تم نشر مواصفات المجوهرات المسروقة لجميع محلات الصاغة ، ولحاجته العاجلة لإجراء عمليات غسيل لكلية والدته، فقد حاول بيع قطعة من المجوهرات ، أعتقد أنها بمواصفات عامة ، لكن الصائغ المشتري تعرف عليها بعد أن فحصها جيدا ، فطلب من وجدي الانتظار عدة دقائق لتدبير مبلغ الشراء .. عندئذ دخل الصائغ الغرفة الداخلية حيث أبلغ هاتفيا الشرطة وتم القبض عليه ، وحكم عليه بالسجن المؤبد ، لاعترافه بجريمته بضغط من المحققين ، عندما عجز عن تفسير كيفية حصوله علي قطعة المجوهرات المضبوطة، ورغم كل ذلك ، لم يدلهم قط علي المجوهرات التي كان قد أخفاها في مكان يصعب الاستدلال عليه .
ثاني يوم وصول النزلاء الجدد ،وفي طابور العرض الصباحي وقف مأمور السجن المشهور عنه الشدة والصرامة في تطبيق القانون ، وبجانبه وقف ضابط يراجع من دفتر بيانات كل مسجون ، وخلف الطابور كان يسير مساعد شرطة يراجع انضباط الطابور ، توقف المأمور أمام وجدي ولاحظ آثار الضرب عليه فسأله عنها ، أخبره وجدي عن عصابة السجناء الذين احتفلوا به عند وصوله في اليوم السابق .. نظر إليه المأمور وقال له :
– إنك جريء بإخباري عن هذه العصابة ، لإن باقي المساجين يخافون من الإفصاح عن أفرادها .. قال له وجدي:
– هل لي أصارحك بشئ يا سيدي ؟
– ماذا عندك ؟ – إنك مريض !! تلقي وجدي صفعة مفاجئة علي قفاه من مساعد الشرطة الواقف خلفه وهو يصيح في وجدي :
-هل تتبجح يا مسجون وتسب معالي المأمور؟ طلب المأمور من مساعد الشرطة السكوت ، وسأل وجدي بتهكم واضح :
– عن ماذا تتكلم يا سيدي المسجون ؟
– عن أعراض الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي ياسيدي !
– وماذا دعاك أن تقول هذا الكلام الكبير؟
– إصفرار بياض عينيك وبشرة الجلد
هنا ظهرت الجدية علي وجه المأمور وسأل الضابط الواقف بجانبه عن بيانات هذا السجين قال الضابط :
– المسجون وجدي أيوب ، السن 29 عاما» ، المهنة معيد بكلية الطب ، محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة لسطوه علي محل مجوهرات وقتل الصائغ وإحداث عاهة مستديمة بالحارس . طلب المأمور استدعاء السجين لمكتبه بعد انتهاء الطابور ..
في مكتبه ، استمع المأمور لوجدي وهو يحكي قصته وما دفعه لارتكاب هذه الجريمة النكراء ، ثم سأل وجدي عن مدي خطورة حالته الصحية ،
قال وجدي :
– إن الأعراض تشتمل أيضا» علي ألم الجزء العلوي الأيمن للبطن ، وألم في المفاصل ، والإحساس المستمر بالتعب والإرهاق، وتحول لون البول إلي داكن وفقدان الشهية للأكل وفقدان الوزن اللاإرادي.
– أنا فعلا أشعر بمعظم هذه الأعراض !
– إذن فلتسرع يا سيدي بعمل تحليل الدم وفحص أنزيمات الكبد وعمل سونار للبطن ، واسمح لي أن أطلع علي النتائج لتقرير العلاج اللازم قبل أن يستفحل الأمر ويحدث تليف كبدي .
أمر المأمور أن يقضي وجدي مدة سجنه يعمل كطبيب في العيادة الطبية للسجن ويقيم في زنزانة فردية ليحميه من مضايقة باقي النزلاء ، ثم سمح له فيما بعد بإستكمال دراسته للماجستير والدكتوراه أثناء فترة عقوبته ، وكان يثق فيه لدرجة انه كان يحضر له أفراد عائلته في عيادة السجن للكشف عليهم!!
أفرج عن وجدي قبل إنتهاء مدة سجنه وذلك لحسن السير والسلوك .. لقد إستوفي المجتمع والقانون حقهما منه ودفع في المقابل أفضل سنوات عمره مقيد الحرية ، ولكنه أيضا كان يعلم انه أزهق حياة بريئة وتسبب في إحداث عاهة مستديمة لحارس المحل ورب أسرة كثيرة العدد ..
أيقن في لحظة مكاشفة للنفس، إنه لا حق له في هذه المجوهرات .. ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من روحة المتهرئه ، ولتغليب كفة الخير في شخصه علي كفة الشر الذي إقترفه ، قرر صرف قيمة المجوهرات والتي تضاعفت قيمتها عدة مرات لتصبح بضع عشرات من ملايين الجنيهات في مشروع طالما حلم بإنشائه ..
إشتري قطعة من الأرض في وسط الدلتا وحصل علي الموافقات اللازمة لإقامة مستشفي لعلاج الفشل الكلوي وفيروس الكبد الوبائي ،أنفق فيها قيمة المجوهرات بالكامل والتي باعها بطريقة سريه خارج البلاد ، بالإضافة إلي تبرعات ومساهمات أصدقائه من الأطباء ، وإلي ما أعلنه في وسائل الإعلان عن قبول التبرعات لشراء أحدث الأجهزة العلاجية .. خصص نصف الأسرة بالمستشفي للعلاج المجاني للفقراء والمعدمين بعد دراسة دقيقة لحالتهم الاجتماعية. والنصف الباقي من الأسرة لميسوري الحال الذي تساهم نفقات علاجهم في تغطية مصروفات المستشفي وتمويل توسعاتها.
أصبحت المستشفي ومديرها الدكتور وجدي أيوب مشهورة علي المستوي المحلي والعالمي ونالت تقدير الدولة ومؤسساتها ، وأصبح اسمه ضمن الشخصيات العامه المشهورة التي يتم دعوتها في المحافل الرسمية والقنوات الفضائية..
لم تنقطع اتصالاته مع مأمور السجن .. وبعد خروجه من السجن ببضعة أعوام ، تقدم للزواج من إبنته التي كانت تزوره للعلاج في عيادة سجنه وفي حضور والدها ، ونشأ خلالها إعجاب متبادل، فلاقي ترحيبا متوقعا من الجميع ، خاصة من الإبنه التي إنتظرت خروجه من السجن ، رافضة كل من تقدم لها للزواج .
بعد كل هذه الاعوام ، كلما تذكر أحداث جريمته البشعة بكل تفاصيلها ، يشعر بغصة في حلقه، وإن تلك البقعة السوداء ما زالت تقبع في داخله، لم تختفي أو حتي تبهت علي إمتداد عمره، ولن تختفي أو تبهت ، إن كان في عمره بقية ..