بقلم: محمد منسي قنديل
كان علينا أن نصمت، أن نحني رؤوسنا اجلالا امام حرمة الدم الذي سال، دماء زكية دفع ثمنها شباب مازالت ارواحهم غضة، فقد طغى صوت البارود وانتهك صمت الصحراء ولم يعد هناك مكان آمن، ورغم أننا نقدم تعازينا الحارة لكل الثكلى من أقارب الشهداء، إلا أننا يجب أن نتكلم، لا يجب أن نترك الفرصة لصوت الإرهاب حتى يغرد وحده ويزف انتصاره القاسي علينا، علينا أن نحول الحزن إلى انتقاد لاذع حتى نفيق ونستوعب الدرس الذي لابد أن تتمخض عنه هذه الصدمة، أيا إن كان عدد الجنود والضباط الذين فقدناهم فإن الضربة موجعة، موجعة للأهالي الذين فقدوا اعزاءهم، وللدولة التي فقدت جزءا من هيبتها، وللمسئولين الذين لم يفيقوا بعد من ذهولهم، ويثير كل هذا العديد من الملاحظات سأكتفي بثلاث منها:
أولا: جبهة جديدة للإرهاب:
لقد استطاع الارهاب أن يفتح علينا جبهة جديدة في الصحراء الشرقية، رد قاس على كل الأصوات التي كانت تطنطن أن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، فمع كل عملية أو انفجار كان يخرج علينا خبراء الاستراتيجية وخاصة الضباط السابقون في الداخلية ليقولوا لنا أن هذه علامة يأس، وأن الإرهاب قد اصبح محاصرا في شريط ضيق على حدودنا الشرقية، الآن تبين العكس، فالجماعات الارهابية ليست في حالة يأس، ولكنها تنوع عملياتها، وتستخدم أسلحة جديدة في كل مرة، ومع توالي العمليات يتبين لنا أنها لازال تواصل القتال، وأن هذه ليست معركتها الأخيرة، كما أنها ليست محاصرة في شريط ضيق، ولكن افرادا تابعين لها موجودون في عمق الوادي، على بعد عدة كيلومترات من عاصمة البلاد، ونحن إذن امام احتمالين، إما ان بعض عناصرها قد نجحت في التسلل من الحصار، وهذا يعني أنه حصار متهرئ يسهل النفاذ منه، او أنهم ارهابيون جدد جاءوا من ثغرة جديدة عند الحدود الليبية، وهذا هو الخطير والمخيف.
فمن هذه الثغرة يمكن أن ينفذ إلينا اخطر المقاتلين، فقد تلقت فلول داعش هزائم ضخمة في العراق وسوريا، وفقدت العديد من المدن والأراضي الشاسعة، ضاقت عليهم رقعة الأرض التي كانوا يتحركون عليها وهم يحاولون الآن الاستيلاء على ارض جديدة، ومقاتلو داعش من نوع مختلف، فهم يجيدون القتال داخل المدن ويستخدمون مختلف أنواع الأسلحة، وقد ظهرت هذه الاختلافات واضحة في المعركة الأخيرة، فلم يهاجموا كمينا ثابتا عاجزا عن الحركة، ولكنهم كانوا متأهبين في استقبال قوى مهاجمة جاءت للقبض عليهم، وبدلا من أن يوقعوا بهم استطاعوا هم الإيقاع بها، وكان الثمن فادحا، من لحمنا ودمنا، من ارواح لم تأخذ كفايتها من الحياة.
لقد اقترب المخربون من الوادي أكثر مما ينبغي، وأصبح لديهم سلاحا اقوى ومددا من الرجال ربما لا ينتهي وعرفوا مسالك الدروب إلى ارض جديدة، وهي أمور لا تقدر عليها الشرطة وحدها، فقد اثبتت الواقعة الأخيرة ان الأمر أكبر من طاقتها ويستلزم امكانيات لا يملكها غير الجيش المصري، علينا أن ندرك أن الأمر أخطر من أن تتحمله إدارة بمفردها.
ثانيا: الإيقاع المضطرب لقوى الأمن:
في الآونة الأخيرة ورغم تكرار العديد من الوقائع الإرهابية فإن دور قوات الأمن في محاربة الإرهاب، ورغم الشهداء الذين يسقطون ، يبدو غامضا بالنسبة لمواطن عادي مثلي، وأنا ادرك أن هناك طابع لازم للسرية التي تمارس بها عملها، ولكن هناك إحساس قد أكون مخطئا فيه أن حركتها تفتقد إلى الإيقاع المطلوب، فهي إما أن تكون متأخرة أكثر من اللازم بعد أن ينتهي الحدث، او تتسرع في الوصول قبل أن يكتمل استعدادها للتعامل مع الحدث، وفي كلا الحالتين لا تصل في الوقت المناسب، منذ أيام قليلة تعرض فرع البنك الأهلي في العريش للسرقة، استولى الارهابيون على ملايين الجنيهات، وقضوا في البنك وقتا طويلا حتى عثروا على مفاتيح الخزائن، ثم عبئوا النقود في أكياس مختلفة، قبل ن ينقلوها إلى عربة نصف نقل كانت تنتظرهم أمام البنك، كل هذا والشرطة غائبة، لم تحضر إلا بعد ان هرب اللصوص جميعا، ولا أدري لماذا لا يوجد في البنك جهاز انذار يتصل بالشرطة فور حدوث عملية السطو كما في معظم بنوك العالم، ولماذا لا تسير الشرطة في مدينة بمثل هذه الخطورة دوريات متصلة حول المواقع المهمة؟ قبلها نصب الارهابيون كمينا في منتصف المدينة واخذوا يفحصون بطاقات المارة حتى يعرفوا المسلم من المسيحي، وتعرض المسيحيون للخطف أو الإرهاب حتى ان العديد من الأسر اضطرت لمغادرة العريش، أين كانت قوات الأمن من هذا الأمر؟ ولماذا ظلت غائبة عن حماية المواطنين في هذه المدينة الحساسة؟
على العكس من ذلك تصرفت قوات الأمن في الواقعة الأخيرة بسرعة تقارب درجة التهور، لقد أرادوا ان يجهضوا حركة الارهابين وكانت النتيجة أنهم أجهضوا حملتهم وضيعوا بعضا من ارواحهم الزكية، لم يتوثقوا من المعلومات الخام التي حصلوا عليها، لم يحولوها حقائق وأرقام يمكن التأكد منها، لم يتحققوا من طبيعة موقع الإرهابيين على الأرض ولا عددهم ولا نوعية الأسلحة التي يمتلكونها ولم يستغلوا حتى ميزتهم الأساسية وأنه يخضون حربا شرعية وهناك في ظهرهم جيش يساندهم ويمكن أن يمدهم بكل الخدمات اللوجستية التي يحتاجون إليها مثل الطيران على سبيل المثال، فقد كان من الممكن أن يقصف الجماعات الارهابية ويدمر المركبات التي يستخدمونها ويقطع عليهم طريق الهرب.
أنه سوء تقدير الموقف كما يطلقون عليه، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا الأمر، وإلى أي حد يمكن أن تتواصل مثل هذه الأخطاء.
ثالثا: من يدفع الثمن؟
فليرحم الله ضحايانا ولكن هناك حساب يجب أن يدفع، لا نريد أن نعيش في ظل هذه المأساة طويلا، أننا مقبلون على مرحلة جدية من الحرب ضد الإرهاب، وسوف يتسلل إلينا بقايا من داعش، وهم مقاتلون محترفون لا تجدي مواجهتهم بالأساليب القديمة ولا بالفكر القديم ولا بالرجال القدامى أيضا، علينا أن نفحص بدقة كل اخطائنا القديمة لأنها لو تكررت ستكون مميتة، ولابد من تكوين لجنة محايدة لتقصي الحقائق، ليست مكونة من الشرطة لأنهم لن يقولوا الحقيقة، ولا من أعضاء مجلس النواب لأنهم مطيعون أكثر مما ينبغي، نريد لجنة تسعى نحو الحقيقة لا تخضع لهوى أو تهديد لأن الامر يخص دماء الشباب وارواحهم، ويخص هيبة الوطن.