ترجمة: إدوار ثابت
من يحصل على وظيفة عالية لا يكون دائماً في موقف أفضل
هذا هو المغزى الذي تعرضه هذه الحكاية ، فهي تحكي عن بغلين ، بغل يُرفّه وبغلً يشقى فمن يرفه يعمل عملاً هادئاً يحمل فيه النقود من خزانة المصارف المالية التي كانت كما يقول الكاتب تحملها البغال قديماً وكان البغل منها توضع فوق عاتقه أغطية مزركشة ويعلقون حول عنقه جرساً يطلق رنيناً عندما يهز رأسه فيسير في نشاط يرفع فيه أقدامه وجبهته ويستمتع بهذا الرنين فإذا هو في وضع سهل راقً يفخر به ويتباهي أما من يشقى فهو يعمل في الحقل طول النهار ينوء بما يحمله من قش شائك وحَب ناتئ فإذا هو في وضع مرهق صعب يضيق به ويضجر. وفي يوم يترقب اللصوص بغل المصرف فيختبئون ينتظرونه فما أن يسمعوا صوت الجرس حتى يتاهبوا فإذا دنا منهم أنقضوا عليه فيشعر البائس بالخطر فيمتنع عنه ولكنهم ينكبون عليه ويجذبونه فيصيبونه ويوقعونه ويسرقون النقود ويفرون بها .
ويتأوه البغل ويشفق على نفسه مما حدث له فيمر عليه زميله الحمال الشقي فيدرك ما عليه وينظر إليه وإلى ما به من جرح يتنهد منه فيلقي عليه مغزى الحكاية التي يقول فيها: يا صديقي ليس من الأفضل دائما ً أن تمتلك وظيفة عالية وها نحن نترجم هذه الحكاية ونضع أبياتها كما في نصها الشعري الفرنسي يقول الشاعر لافونتين فيها :
بغلان كانا يسيران على الطريق
الأول يحمل الشوفان والثاني يحمل حصيلة ضرائب الملح (ضرائب الملح هي ضرائب كانت تستقطع في النظام القديم في فرنسا من بيع الملح وقد ألغيت بعد الثورة الفرنسية عام 1789)
فهذا كان فخوراً بهذا الثقل الهادئ
لا يرغب في أكثر من ذلك سهولة وخفة
فهو يمشى بخطى نشطة يدق فيها جرسه
وعندما يبدوا الأعداء يبتغون النقود
إذا هم يرمونه بوافر الضربات
فيكبحون جماحه ويوقفونه
وإذا هو في دفاعه يشعر بالجرح
فيتأوه ويتنهد ويقول في نفسه
أذلك هو ما كنت قد وعدت به
فهذا البغل الذي يتبعني ينأى عن الخطر
وأنا قد وقعت فيه وجرحت
فيقوله زميله يا صديقي
ليس من الأفضل دائماً أن تمتلك وظيفة عالية
فإن كنت لا تريد أن تخدم إلا طحاناً مثلي
فسوف لا تقع هكذا مريضاً
فالحكاية كما يبدو منها تتضمن حكمة إجتماعية يرمز بها إلى الإنسان فأنظر غليه يقول ( عندما يبدو الأعداء ) وعندما يقول (تمتلك وظيفة عالية فهذه ألفاظ ترمز للإنسان يقول فيها الشاعر أن في بعض الأحيان لا يكون الإنسان في وضع أحسن إذا حصل على عمل عالِ وهو يرى أن هناك دوافع كثيرة تدفع المرء إلى ما يرغب فيه تارة وإلى ما لا يرغب فيه تارة ثانية وهذا حق فقد يحصل البعض على وظائف رفيعة المستوى فلا تكون في صالحهم فيضيقون بها وقد يحرمون منها فيكون هذا الحرمان أفضل لهم لأنه يفسح لهم طرق إلى أوضاع قد تكون على بالهم فلم يتوقعوها أو ينتظروها فتسرهم بعد أن ضاقوا وتزمروا مما لم يحصلوا عليه .
وفي بحثنا عن عناصر هذه الحكاية فنحن لا نعرف منها أن نقود المصارف حينذاك كانت توضع هكذا كما يروي الكاتب على عاتق البغال وهي من غير شك مبالغ عالية وهامة تملكها المصارف أو تخضع للحكومة في ذلك الوقت فلا بد قد كانت هناك وسائل ثانية لهذا الغرض ونحن نعرف أن السيارات لم تكن قد أخترعت بعد في ذلك الوقت الذي أصدر فيه الشاعر لافونتين حكايته وهو القرن السابع عشر والتي بدأها فيه في عام 1668 قبل أن تصنع السيارات وتنتشر فأول آلة بخارية أخترعها الفرنسي دينيس بافان في عام 1687 وأستمر أختراعها حتى الثورة الفرنسية عام 1770 ثم طورها البريطاني جيمس وات بعد ذلك . فإذا كانت النقود تأخذ هكذا فلا بد وقد كانت تحفظ في العربات التي تجرها الخيول والتي أنتشرت في ذلك الوقت أو ما يشبهها من سبل وليس على عاتق البغال ولكن أغلب الظن أن الشاعر تغاضى عن توضيح هذا الأمر فرأى أن لا أهمية له فكل ما يهمه في إبرازه هو أن يقارن : بين بغلين يعمل الأول في وظيفة عالية ويعمل الثاني في وظيفة متواضعة وبين نمطين من الإنسان يختلفان في مكانتهما الاجتماعية . وهناك أمر ثانِ يرتبط بعناصر الرؤية الفنية للحكاية وهو أن الشاعر يترك البغلين يسيران بلا قائد لهما وكان من اليسير عليه ان يوضح ذلك في نظمه فيضع بيتاً شعرياً يبرز فيه من يقودانهما على الطريق ولكن مما لاشك فيه في أتباعه هذا الأمر وتغاضيه عن ذلك العنصر ليس إلا ليقارن بين هذين البغلين كما قارن بهما من قبل وبين نمطين من الإنسان ومن هذه المقارنة يهدف الشاعر إلى المغزى الاجتماعي الذي يضمنه حكايته والذي قد يشمل معه مغزى سياسياً كالكثير من حكاياته ليبرز الوضع السياسي في العصر الذي كان به غير أننا نقترب إلى الشك فيه لما يبدو في محتوى الرواية وفي عناصرها . نقول من هذه المقارنة أن الشاعر يهدف إلى هذا المغزى ليطمئن الفئة الفقيرة التي كانت تعمل في مهن متواضعة في عصره وكأنما يهدئها أن لا تتذمر أو يواسيها بما يوضحه لها أن من يمتلك وظيفة عالية لا يكون دائماً في وضع أفضل . أما ما هو ملفت للأنتباه هو من ألقى مغزى الحكاية فالبغل هو الذي يلقيه على لسانه وليس الكاتب وقد كان يستطيع هو أن يضعه بنفسه على لسانه فأغلب الظن هو أن ما فعله يرغب فيه أو يهدف إليه وكأنما يقول لهذه الفئة : عليكم أن تفهموا بدقة هذا المغزى وعليكم إدراكه فالبغل فهمه وأدركه .