بقلم: سونيا الحداد
حكمة التجرد في الحياة لا ندركها إلا في زمن متقدم من العمر من خلال تجارب نمر بها تكون عبرة لنا. تجارب تفتح لنا باب التأمل والتساؤل في وحدتنا وفي صمتنا بعد أن نخسر أحيانا كل شيء لندرك أننا لسنا بحاجة لأغلب هذه الأشياء التي تستعبدنا وتتملك أحلامنا وغرائزنا، ترسم طريق حياتنا وتحفر روحنا التائهة في عالم من الأوهام من صنع البشر رغبة في تملك القوة والسلطة والمال.
عالم الأوهام هذا هو ثقافة ننشأ على تعلمها في منازلنا، مدارسنا، مجتمعنا معابدنا وكل ما يحيط بنا من وسائل سمعية بصرية وحسيّة. ثقافة تمثل لنا معايير النجاح في الحياة وأهدافها من خلال الاستهلاك والتملك دون حدود، رغبة بالسلطة، القوة والترف المبالغ به. عباقرة في فنون التجارة هم أسياد عالم الأوهام هذا، ينسقونه بدهاء المرابي الذي تملك فريسته يلهو بها كما يحلو له. نعم، نحن فريسة هذه الثقافة آلتي ندور في محورها مسلوبي الإرادة وقد أصبحنا مدمنين على مغرياتها نتملكها هوية لنا في مجتمعات وهمية ابتعدت عن روح السعادة الحقيقية، عن معنى السلام الداخلي الحقيقي الذي هو بالأساس، الهدف الرئيسي لتواجدنا ومسيرتنا. سلام داخلي من الصعب الحصول عليه في عالم مبني على الأوهام. سلام داخلي لا ندركه إلا بعد المرور بتجارب عسيرة قد توصلنا يوما الى خسارة كل شيء. خسارة المال، الصحة، الصداقة وحتى روابط العائلة.
يوم نخسر كل شيء وننعزل عن عوامل الأوهام ومغرياته التي تستنزف جميع طاقاتنا الوجودية دون توقف، تتفتح عين المعرفة وندرك أنه علينا خسارة كل شيء لنكسب كل شيء. يومها تنعم علينا الحياة ونتملك حكمتها، وهي نعمة لا تثمن. إذا تمكن الإنسان من مواجهة صدمته سيتمكن من إنقاذ روحه وإخراجها من أثر الأوهام المدمرة. يومها سنكتفي فقط بما هو أساسي وضروري لنا حسب قدرتنا وحاجاتنا. يومها سيكون للصداقة والصحة، والسلام الداخلي معنى آخر. يومها سنختار تبني ثقافة شفافة مبنية على التجرد عن الكثير من المغريات والاكتفاء بالحاجات الأساسية بعيدا عن هموم وهمية تتآكلنا قلبا، روحا وفكرا. ثقافة ندرك بها أن هذه الخسارة الكلية هي التي تكسر وحدتنا لتغمرنا بدفء نور الحكمة الذي كان مقدسا عبر التاريخ. يوم كانت حكمة العجوز أو المعلم، هي مدرسة الحياة الحقيقية التي تدير المجتمع. يا ليتنا نتمكن من إدراكها دون دفع الثمن الغالي من أجلها لكن الحقيقة تأتي دائما بعد خسارة كل شيء! أنها طبيعة المجتمعات المدمنة والإنسان يهوى الإدمان لا يستفيق منه إلا بصدمة تهز كيانه رأسا على عقب!