بقلم: د. خالد التوزاني
لوحظ مؤخراً في كثير من الملتقيات الصوفية الكبرى حضور وازنٌ للشباب المغربي الذي أصبح يقبل على التصوف بشكل يثير عدد من التساؤلات عن الأسباب التي تقف وراء هذا النزوع نحو التجربة الصوفية. وبصفتي باحثاً في هذا المجال، فإني أضع فرضيات لتفسير هذه الظاهرة، ويقتضي التحقّق منها دراسة ميدانية يتم فيها توظيف أدوات البحث العلمي كالاستمارة والمقابلة ثم استثمار النتائج إحصائياً ودلالياً، من أجل التحقق من الفرضيات والخروج بنتائج أقرب للواقع والصواب، لأن العلم هو الذي يفسر الظواهر ويساعد على فهمها. أما الفرضية الأولى فترتبط بمقاصد دينية وأخلاقية ووطنية؛ تتمثل في العودة إلى الهوية المغربية في بعدها الديني الأصيل، ومعلومٌ بأنَّ التصوف في المغرب ليس مجرد طقوس أو زوايا أو طرق معينة، وإنما هو مكون أساسي من مكونات الهوية؛ تلك الهوية التي قامت على أربعة مبادئ أساسية، هي: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الإمام الجنيد، وإمارة المؤمنين بوصفها مؤسسة رسمية تحمي أصول الهوية وتعمل على تقويتها ورعايتها وضمان استمراريتها، وهذه المبادئ هي التي لخّصها الشيخ عبد الواحد بن عاشر في منظومته المشهورة (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) حين قال: في عقد الأشعري وفقه مالك و في طريق الجنيد السالك
ولا يخفى ارتباط هذه المبادئ بأقسام الدين الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان، حيث يراد بالإحسان الجانب الصوفي، ولذلك فإن التصوف من صميم الهوية المغربية، فلا غرابة أن يكون التصوف ضمن اهتمامات الشباب المغربي المتدين، وخاصة ذلك النمط المتشبّع بقيم الوسطية والاعتدال والمتشبث بالعادات والتقاليد المغربية، فنجده يطرب بالسماع الصوفي ويحمل السبحة بين يديه، ويرتدي اللباس المغربي التقليدي، وقد يرتدي بعض الأزياء الصوفية كما هو مألوف عند بعض الطرق وعلى رأسها الكركرية.
أما الفرضية الثانية فترتبط بمقاصد علمية ومعرفية؛ تتمثل في دافع الاكتشاف والاستجابة لداعي الفضول ومعرفة خبايا الزوايا وخفايا الشيوخ والأولياء، باعتباره موضوعاً معقداً يصعب فهمه دون الدخول إليه.
في حين الفرضية الثالثة، مرتبطة بغايات نفسية، مثل تحقيق الشعور بالانتماء والإحساس بروح الجماعة وبلوغ الأمن الروحي والاطمئنان القلبي عن طريق الممارسات الصوفية وعلى رأسها الذكر والحضرة وغير ذلك من أدوات التصوف التي تلبي الحاجات النفسية وتحقق نوعاً من الأمن وخاصة تلك الأجواء الأخوية التي تطبع العلاقات بين المريدين والشيخ، وتحقّق التواصل وتبادل المنافع بين المنتسبين للطريقة الواحدة، بحيث يشعر المريد بالحماية.
وهناك فرضيات أخرى مرتبطة بعوامل اقتصادية، إذ يعاني بعض الشباب من البطالة ويبحث في التصوف عن بعض الفرص الممكنة، أو الاقتراب من شيخ الطريقة أو بعض أقاربه أو المريدين ممن لديهم المؤهلات المادية بغية مساعدة هؤلاء الشباب في مشاريع أو توجيهات ضمن تبادل الخبرات، خاصة وأن الانتماء إلى طريقة واحدة يساعد على التواصل من هذا النوع.
لوحظ ولوج عدد من الشباب الذي كان ضمن حركات إسلامية بعضها متشدد والآخر وسطي أو متساهل، ولوجه التجربة الصوفية وإعلانه الانتماء إلى طريقة معينة، أحياناً علانية، وأحياناً أخرى دون إظهار ذلك الانتماء، وهذا في حد ذاته يطرح بعض التساؤلات، ثم إنَّ البعض من هؤلاء الشباب يرتمي في أحضان الإلحاد فيُنكر كل شيء ويجد ذاته في العودة إلى نقطة الصفر، لتأسيس معرفة عقلانية، قد توصل إلى الإيمان، وقد لا توصل إليه، ولكن تبقى تجربة الإلحاد تطرح العديد من الإشكالات، أما الانتماء للتصوف فيخضع للفرضيات السابقة، في حين الإلحاد يمثل تمرداً على الحركات المتشدّدة، وهنا ليس بالضرورة أن تكو إسلامية، لأن هناك من الشباب من كان لديه انتماء لجبهة سياسية معينة أو تيار فكري ما، ومع ذلك يعلن في لحظة معينة ولوج التصوف، بمعنى قد يكون هذا الولوج بمثابة ثورة؛ ثورة على الذات أولاً في العودة إلى منابع الإيمان، وثورة على المؤسسات والتيارات التي كان ينتمي إليها هؤلاء الشباب.
ويأتي في الغالب هذا الانتقال نحو التصوف، بسبب المراجعات الفكرية والعقدية التي قام بها هؤلاء الشباب، وتبين لهم أنَّ التصوف مقام الإحسان، لا يستقيم الإسلام بدونه، وأنه مجال علم الأخلاق وإصلاح القلوب، وأنه تقويم الجنان مثلما النحو تقويم اللسان.
لماذا دائما ما يقابل التصوف بالرفض وأحيانا يُتهم أصحابه بالخروج عن الدين وغيرها من الأحكام الجاهزة المعدة سلفا؟
قوبل التصوف وخاصة في بعض الفترات التاريخية، بالرفض والإنكار وحورب أصحابه، فقد سَجَّل التاريخ العربي الإسلامي محاكمات لكثير من أقطاب التصوف وكبار الأولياء والعارفين، في المشرق والمغرب؛ فهذا عبد السلام ابن مشيش على الرغم من أنه كان رأس أحد التيارات الصوفية الكبرى في المغرب والعالم الإسلامي وهو تيار الشاذلية المشهور بوسطيته واعتداله والتزامه بالكتاب والسنة، إلا أن المتضايقين به قتلوه عام 625هـ. وهناك زوايا تم طمس معالمها ومحو أثرها مثل الزاوية الدلائية، أو نفي شيوخها مثل الزاوية العياشية، ويضاف إلى ذلك، ما تعرضت له الدعوة الدرقاوية، بزعامة أحمد بن عجيبة الحسني، من مضايقات بسبب نهجها الإصلاحي الذي لم يرق أصحاب الرياسة وأرباب المصالح، فهدمت مراكزها وزواياها في تطوان، وطرد أحمد بن عجيبة من طنجة وأحرق منزله، واتهم بالمروق عن الدين، فاعتقل وأتباعه، وزج بهم في غياهب السجون.
وفي بلاد المشرق واجه بعض مشاهير التصوف تهما بالكفر والزندقة والمروق من الدين، بلغت حد الصلب والحرق، مثلما وقع للحلاج، إضافة إلى عدد من المحاكمات التي غيَّرت منهج الصوفية وأثَّرت في أسلوب حياتهم وسلوكهم الطرقي، فلم يكن غريبا أن يلجأ المتصوفة في أزمنة الحصار والمنع والتنكيل إلى عقد حلقاتهم ودروسهم بشكل سري في غرف مقفلة لا يقبل فيها إلا من يوثق به، درءًا لكل متجسّس أو مندسّ لا يفقه كلام القوم فيحمله على الظاهر ليسيء إلى أهله.
ولعل هذا الرفض في أصله راجع إلى عوامل سياسية وليس إلى عوامل موضوعية، لأنه بزوال الظروف السياسية، فإن التصوف يستعيد عافيته ويعود إلى الواجهة وينتعش من جديد، لأنه يرتبط باختيار الأفراد طواعية وإحساساً بالأمن ومشاعر المحبة والقرب وقيم الإخاء والتعاون والتسامح، وغير ذلك مما يدعو إليه التصوف.
يقول مريد لإحدى الزوايا إن تجربة التصوف تعجلك تهرب من الى نور الله وتجعلك تتجلى عبر طقوس الحضرة والتجلي وغيرها من الطقوس الصوفية عكس الخارج الذي يظهر للإنسان جوانب من الدين كالعذاب والوعيد بالنار والعصيان وغيرها. ما رأيكم في رأي هذا الشاب مريد إحدى الزوايا؟
نعم كما سبق القول، هناك أكثر من سبب يدعو المريد إلى التصوف، سواء تلك الأسباب الذاتية “الداخلية”، أو الأسباب “الخارجية” التي تُحاول الطرق والزوايا الصوفية ترويجها في سياق الاستقطاب وتوسيع دائرة نفوذ الزاوية، خاصة وأن بعض الزوايا حديثة الظهور في السنوات الأخيرة، ولم يكن لها وجود تاريخي، فهي أشبه بالمقاولة أو الجمعية، ولكن تلبس لباس التصوف، ومن أجل إثبات وجودها فهي تعمل جاهدة لاستمالة الشباب، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتوظيف خزّان التصوف التاريخي والتراثي، فيتم استدعاء نصوص قديمة وبناء تصورات جديدة على أنقاضها، مثل رؤية النور، أو الشعور بالسرور، أو الإحساس بالقرب من الحق، وغير ذلك من الغايات التي تصبح هدفاً للمريد، وهي بواعث متفائلة في أغلبها وتدعو للحياة استجابة لتطورات العصر الذي نعيشه، فيقال تصوف الجمال، والصوفي ابن وقته، وأن الزاهد ليس مَنْ لا يملك متاع الدنيا، وإنما الزاهد مَنْ يملك الدنيا ويضعها في يده، وليس في قلبه، إذ القلب عامر بالله، وموصول بذكر الله. ولذلك ما يقوله هذا المريد هو يعبّر عن موقفه بشأن الانتماء للزاوية، ويعكس أيضاً جزءاً من انتظاراته بحيث قد يغيّر موقفه في حالة لم يجد في الزاوية ما كان يتوقّعه ويرجوه، وهو ما يفسر أيضاً مغادرة الزوايا، لأنه مثلما نتحدث عن الإقبال على الممارسة الصوفية، هناك أيضاً العزوف عن هذه الممارسة وحدوث نوع من الرِّدّة، بل أحياناً التمرد عليها وعلى الدِّين بإنكاره وولوج الإلحاد.