بقلم: محمد منسي قنديل
شيء مدهش حدث في مصر مؤخرا، تم اختيار الرجل المناسب في الموقع المناسب، أمر لا يحدث إلا نادرا، فدائما ما يأتي رجال من المجهول ويتولون المناصب العامة دون أن نعرف لماذا جاؤوا، ثم يرحلون دون أن نعرف لماذا رحلوا، وخلال فترة توليهم لا يقومون إلا بأفعال مجهولة لا ندري جدواها، ويدلون بتصريحات تعقد المشاكل دون أن تضع لها حلا، ولكن الأمر مختلف هذه المرة، فبعد طول تجارب فاشلة تم اختيار وزير جديد للتعليم هو الدكتور طارق جلال شوقي، كفاءة مصرية لا شك فيها، خبرة طويلة في مجال التعليم، والأهم من ذلك أنه يملك رؤيا خاصة به للاقتراب من مشكلة التعليم المعقدة ، وقد استمعنا إلى جزء من هذه الرؤيا وهو يتحدث في مؤتمر الشباب الذي كان التعليم هو موضوعه الرئيسي، وهذا الحديث القصير هو الذي لفت الأنظار إليه، ولا يخفى على احد أننا في مصر نفتقد للأشخاص ذوي الخبرة القادرين على تحمل المسئولية، فرغم وجاهة منصب الوزير في بلد بيروقراطي مثل مصر، إلا أنه لم يعد مفضلا، فهو يسلط الضوء على أناس يفضلون العمل في الخفاء، كما أنه قد اصبح منصبا قصير العمر، يحيط صاحبه بالشبهات وليس بهالات المجد، لذلك كان سعادتي كبيرة بموافقة رجل من نوعية طارق شوقي على تولي المسئولية.
أنه ليس قادما من المجهول ولكن سيرته الذاتية معلومة، تخرج من جامعة القاهرة مهندسا، أي أنه نتاج نظام التعليم المجاني المصري أيام كان هذا النظام يحظى بالاحترام، اكمل دراسته في جامعات الولايات المتحدة وعمل في عدد من جامعتها وخاصة في معهد ماساشوتش الشهير للتكنولوجيا، وحصل على جائزة الرئيس الأمريكي للتفوق البحثي، ولكنه لم يقترب من مجال التعليم بشكل فعال إلا بعد أن عمل في منظمة اليونسكو وكان رئيسًا لقسم تطبيقات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في التعليم والعلوم والثقافة وبعد ذلك اصبح عميدا لكلية الهندسة بالجامعة الامريكية، آخر المناصب قبل أن يتم تصعيده لمنصب الوزارة.
خبرة كبيرة ولكن هل تؤهله لمواجهة اخطر قضية يواجهها المجتمع المصري؟، أن تخلف التعليم يساوي تخلف المجتمع ككل، وهي السبب الرئيسي في تدني مستوى سلوك الشعب المصري وظهور كل تلك الظواهر السلبية التي نعاني منها، لقد تخرجت اجيال معقدة من المدارس ومن طريقة التدريس فيها، لا يجيدون إلا القراءة والكتابة بالعافية بينما تسرب الآلاف غيرهم من المدارس دون ان يتعلموا شيئا على الاطلاق، وتوقف الذهن المصري عن تقديم أي ابداع جديد لأنه لم يتعلم اصلا كيف يبدع أو يبتكر، وتحولت المدن المصرية بما فيها القاهرة إلى عشوائيات يسكنها أناس عشوائيين لا يجيدون التحدث أو التفكير أو التصرف، اصبحنا نرتكب اخطاء شنيعة لم نكن نرتكبها من قبل، لقد فقد المجتمع بوصلته عندما انهارت العملية التعليمية وتحول الجزء الاكبر من الشباب إلى اجراء في «سوق الرجالة» لا يملكون أي مهارات ذهنية خاصة، ولا حتى يجيدون العمل اليدوي، وبدأت الدول العربية التي كانت تستعين بمخزن الكفاءات المصرية في البحث في اماكن أخرى، لم تعد تطلب المهندس المصري ولا الطبيب ولا المدرس المصري، حتى في الجامعة اصبحت تستعين بالأساتذة الهنود الأكثر خبرة وكفاءة، اصبحنا شعبا يقف على حافة جرف الجهل وانعدام المعرفة وفي حاجة ملحة لننقذ اجيالنا المقبلة، أن ننقذ مستقبلنا.
امام الدكتور طارق معركة صعبة، وقضايا كثيرة، ربما لن يطول عمره في الوزارة كثيرا حتى يستوعبها، ولكن هذا لا يمنع من ابداء بعض الملاحظات:
أولا: ارجو من سيادة الوزير آلا يتحدث عن الغاء مجانية التعليم، لا يجب المس بهذا الحق المقدس الذي اقره طه حسين واقرته بقية الدساتير المصرية من بعده، ارجو آلا تنسيه المناصب التي تولاها أننا شعب من الفقراء، والتعليم هو وسيلتنا الوحيدة للترقي، لا ضرورة للتباكي على ميزانية الدولة فليس هناك وسيلة افضل لإنفاقها خير من تعليم ابنائها، وهي اهم بكثير من شراء حاملات الطائرات أو بناء المفاعلات النووية أو استيراد السيارات المصفحة، اذا اهدرنا مجانية التعليم فقد قضينا على مستقبل هذا البلد، وهناك كثير من المتلهفين على نزع كل انواع كل انواع الحماية عن هذا الشعب، الدعم اولا ثم مجانية التعليم ثانيا، والمخفي مازال اعظم.
ثانيا: ربما كانت بداية معركة الوزير داخل الوزارة نفسها، ضد الافكار المتحجرة في أذهان الموظفين والمستشارين، فقد ظلوا طوال السنوات الماضية يلعبون بها في عقول اطفالنا، واخضعونا لتجاربهم الفاشلة واجتهاداتهم التي جعلتنا في مؤخرة الدول، مصدر قوتهم إنهم يعرفون أن عمر الوزير قصير، وأنه سيرحل عن الوزارة ويبقون هم، لذلك فهم يرفضون التغير ويعتبرون أي وزير هو سحابة عابرة، والسياسة التي يضعها هي نوع من الفلكلور، على الوزير الجديد أن يبتعد عن افكارهم النيرة ويبدأ من نقطة الصفر.
ثالثا: قضايا التعليم كثيرة، والمشاكل التي يعاني منها لا يمكن أن يحلها وزير واحد مهما بلغت قدرته وطالت مدته، لذا ارجو منه أن يركز على مشكلة واحدة لعله يصل فيها إلى حل، لا طائل من الكلام حول الدروس الخصوصية، ولا المناهج المختلفة التي تعتمد على التلقين، ولا على المستوى المتدني للمعلمين، نحن في حاجة للأساسيات، لإيجاد مكان انساني صالح لتعليم الأطفال، يوجد في مصر عدد هائل من المدارس، خمسون ألفا بالتمام والكمال، وهي غير كافية والعدد الأغلب منها غير صالح للقيام بمهمته، معظمها مبان قديمة آيلة للسقوط، والجديد منها قام ببناؤه مقاولون فاسدون، وبعضها لا يجب أن نطلق عليه اسم مدرسة، وعدد المدارس يزيد عن عدد الابنية المتوفرة، وبذلك يستقبل المبنى الواحد أكثر من مدرسة، واحدة في الصباح وأخرى بعد الظهر، وعلينا أن نتصور مدى صلاحية هذا اليوم الدراسي المقسوم إلى نصفين، المدارس هي البنية الرئيسية للتعليم، فما بالك بمؤسسات تهين كرامة طلابها ، تحشدهم في فصول مزدحمة، في كل فصل يوجد اكثر من ستين طالبا، نصفهم جلوس والباقي واقفين ينتظرون دورهم، يعانون من دورات مياه خربة وجدران ضيقة لا تعطي متنفسا لممارسة أي نوع من الرياضة لا مكان لأي انشطة، ولا ميزانية أيضا، وهنا تصبح المدرسة طاردة وهذا ما اوصلنا جميعا لدرجة الصفر.
يمكن أن نناقش كل المشاكل الأخرى، ولكن لا تعليم دون بنية اساسية، ولا وجود لوزير التعليم دون مدارس صالحة للتعليم.