بقلم: د. خالد التوزاني
يزخر التراث العربي القديم بقصص عجيبة، تمتزج فيها الحقيقة مع المجاز، ويتداخل الواقع مع الخيال، ويحضر الحلم في اليقظة، ويبدو المستحيل ممكنا، وتغدو تلك القصص على كل لسان، وكأنها تأليف جماعي، أو إرث إنساني مشترك، لتؤسس الخلاص من واقع بئيس، وتمارس دورها العلاجي لأزمات نقص الغذاء والدواء، وتحقيق الأمن والرخاء، في عالم يغيب فيه كل شيء إلا القصص العجيبة التي تحضر بجبروتها وسطوتها وأنسها وحنانها، فيستأنس الإنسان بالحكايات العجيبة التي توظف الجن باعتباره كائنا خارقا بإمكانه أن يحقق المستحيل، وأنْ ينتشل هذا الإنسان من واقع متأزم وصعب، وبذلك يكون “الجن” ملاذا للمقهورين والمنبوذين، وتصبح حكايات الجن تعبيرا عن مجتمع متطلع لأكثر مما تصل إليه يده، فيصل لمراده عبر طرق غيبية توظف ما وراء الحس والإدراك. تذكر بعض التفسيرات أن الجن قد خُلِق قبل آدم بستين ألف سنة، وأن هذه المخلوقات كما قال الإمام القرطبي، قد تُسعف الإنسان على خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. وفي القرآن الكريم ذُكرت كلمة “جن” أكثر من عشرين مرة، بل توجد سورة تحمل اسم سور الجن، وهناك عشرات الأحاديث تصف عالم الجن وخصوصياتهم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير”، ويدل هذا الحديث أن تأثير الجن على الإنسان لا يتجاوز الوسوسة والتشويش الذهني، فكلمة “وَكَلَ” تحمل معاني الضعف والعجز والاعتماد على الغير، وكلمة “وُكِلَ به” تعني استسلم إليه، وهي معاني تنسجم مع خصوصيات الإنسان القلق، والذي يشعر بالعجز أمام مصائب الدنيا وصعوبات الحياة، فيميل إلى إسقاط فشله وعجزه على كائنات غير مرئية تتسم بالقوة الخارقة والتأثير المباشر في حياته، وذلك تملّصاً من المسؤولية وتخلصاً من الشعور بالذنب عندما يقصّر في بذل المجهود، أو عندما لا يجد تفسيرا منطقيا لفشله، وهكذا يحتاج هذا الإنسان/العاجز إلى شيطان/جني قوي كي يحس بالأمان ويحقق بعضا من توازنه الداخلي.
ولما كانت حياة الإنسان العربي القديم قائمة على الترحال والتنقل، فإن بعض الحكايات العجيبة قد شكّلت عائقا أمام تنقله بحرية وأمان، حيث تصنع في ذهنه صورا مخيفة لكائنات عجيبة، مهمتها “تضليل المسافرين”، ويأتي “الشق” و”الغول” و”الجن” على رأس تلك المخلوقات التي كانت تخرج للمسافر، وخاصة إذا كان وحده، فتعترض سبيله، وتعمل على تحويل مساره، بل قد يفقد حياته في حالة مواجهتها أو مقاومة رغباتها، ولكثرة ما كانت تروى مثل هذه القصص، صدقها الإنسان العربي وآمن بها أشد الإيمان واعتقد بتأثيرها عليه، حتى إذا انطلق مسافرا في الصحاري والفيافي أخذ يتحدث عن رؤيته لها وصراعه معها، فيضيف إلى جانب ما ترسّخ في ذهنه من حكايات حول تلك المخلوقات الغامضة تفاصيل أخرى من وحي رحلاته الطويلة، ومن ذلك يذكر قتاله لها وانتصاره عليها، ولا يكتفي بوصف بطولاته في غلبة الكائنات الخارقة، وإنما يحمل معه من آثارها الدليل المادي على شجاعته، فهذا تأبط شرا يزعم “أنه لقي الغول في مكان بالحجاز يدعى رحا بطان، وجرى بينه وبينها محاربة، وأنه قتلها وحمل رأسها إلى الحي، وعرضها عليهم حتى يعرفوا شدة جأشه وقوة جنانه”.
يبدو أن مثل هذه الحكايات التي تُظهر انتصار العربي على المخلوقات المخيفة، تريد أن تقول أن مفارقة الديار والتنقل بين البلدان البعيدة، عملٌ لا يقدر عليه سوى الأبطال والشجعان من الفرسان والشعراء، ونظرا لمكانة الشاعر في البيئة العربية، فإن الشعراء يجب أن يتصفوا بشدة الجأش وقوة القلب وصلابة العزيمة، فلا ترهبهم النيران التي كان يوقدها الغيلان بالليل لتضليل المسافر وإخافته، بل إن أصوات تلك الكائنات العجيبة، تتحول إلى لحن يطرب له الشاعر، ويصير لهيب نيرانه ألوانا زاهية يستمتع بها، وفي هذا المعنى، قال الشاعر:
فللـه در الغـول أي رفيقـة لصاحب قفر حالف وهو معبر
أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت حواليَّ نيـرانا تلوح وتزهر
حيث تتحول مظاهر الرعب، إلى تجليات للجمال واللذة والمتعة، وبدل أن يشعر القلبُ بالخوف والفزع، فإنه يطرب ويترنم ويسعد، وتلك قدرةٌ لا يتصف بها إلا الأبطال من الشعراء.
من المدهش أن يتجاوز صراع الإنسان العربي مع بعض المخلوقات العجيبة العداوة والحروب والصراع، إلى نوع من الأنس والمودة والتصالح، بلغ حد الزواج من الكائن العجيب وإنجاب الذرية منه، تعبيرا عن عميق الألفة بينهما، حيث تذكر بعض القصص زواج عمر بن يربوع بن حنظلة بالسعلاة (وهي أنثى الغول) التي بقيت معه زمنا طويلا، وولدت منه، حتى رأت ذات ليلة برقا على بلاد السعالي، فطارت إلى أهلها الذين كانوا قد زعموا له، أنه سيجدها خير امرأة ما لم تر برقا، وكانوا يزعمون أن السعالي، تمقت البرق فتفر منه. ويبدو أن العلاقة الحميمية بين الإنسان والكائنات العجيبة والخارقة (السعلاة، الجن..) تعبر عن تطلع الإنسان إلى عالم الكمال الحسي في الوصال الجنسي، خاصة عندما تعجز الزوجة الآدمية عن إشباع مثل هذا الطموح الشبقي، الذي لا يتطلع إليه إلا الأبطال من الشعراء والفرسان، ويعبر عن هذا الطموح قول الشاعر:
ثيّب إن هَـويـتُ ذلك منها ومتى شئت لم أجـد غير بِكْر
بنت عمرو خالها مِسْحَلُ الخير وخـالي هميم صاحب عمرو
وتبيّن كثرة هذا النمط من القصص أن توظيف الجن في الأدب العربي، كان شيئا مألوفا ومتداولا بين الأدباء والشعراء، وخاصة حكايات العشق بين الثقلين؛ فقد تضمنت حكايات “ألف ليلة وليلة” نماذج من عشق الجن للإنس، وعشق البشر للجن، وكذلك “سيرة سيف بن ذي يزن”، التي تتكرر فيها قصة “الجان الذي يخطف البنات الإنسيات لأنه يحبهن، ثم يخلصهن البطل..”. ولعل ذلك، يذكرنا بقصص زواج الآلهة والبشر في الأساطير الإغريقية القديمة، مما يمكن أن نستنتج من خلاله، أن توظيف الجن في الأدب العربي، يعكس أحلاما قديمة لتطلعات الإنسان، في تخلصه من بعض العوامل التي تعوق حصوله على ما يريد، فبمساعدة الكائن الخارق، أصبح ممكنا تحقيق كل الأحلام. ولذلك، لا عجب أن يكثر الحديث عن العلاقات بين الإنس والجن، عند الشعراء خاصة، نظرا لكونها علاقات عجيبة تخرق المألوف والمتعارف عليه بين الناس، تفنن القصاصون في إبرازها وتناولها، وقد عكس الإبداع الأدبي ذلك الطموح الشبقي في الحصول على ما هو غير محدود وغير مرتبط بطاقات البشر وبإمكاناتهم، حيث شكّل حضور المخلوقات العجيبة أحد العناصر المكونة لبناء القصيدة العربية، وعَكَسَ هموم هذا الإنسان وانشغالاته في أدقّ تفاصيلها ونتوءاتها الداخلية، فليست “فكرة الغول أو الجن” سوى تجسيد للقلق الوجودي والخوف الإنساني الكامن في أعماق الإنسان من أخيه الإنسان، الذي يتحول من عطاء المحبة والخير، إلى عطاء الأذى والشر. ومن ثم، لم يكن حضور العجيب في الإبداع العربي، ترفا جماليا أو تشكيلا فنيا لدفع الرتابة والملل، ولا تمردا على الذات والمحيط كما هو الشأن عليه في العجائبي كما ظهر في الغرب، بقدر ما كان تعبيرا عن أنماط من الوجود القلِق، وتجسيدا لآمال كبيرة، لم تقدر حواجز الواقع الطبيعي وحدوده على تلبيتها، فكان تدخل الكائنات فوق الطبيعية، “التي تحقّق معجزات يعجز الإنسان عن أدائها”، أمرا ضروريا لإعادة التوازن والاستقرار إلى حياة الإنسان، وأيضا التطلع إلى آفاق أرحب من الحياة الأخرى التي تشبه الجنة.
يبدو أن اهتمام الإنسان العربي بالجن، والتعويل عليه لمواجهة بعض الشدائد والمحن، راجع لتلك التمثلات الذهنية تجاه قدرات الجن غير المحدودة، ومجالات تدخله غير المنتهية، وأنه يمكن أن يقدم العون للبشر في تنفيذ بعض الأعمال الصعبة، ويخبرنا القرآن الكريم أن الله عز وجل سخّر الجن لسليمان عليه السلام، كما قال تعالى: “يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” ، وقوله عز من قائل: “وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير”. حيث فتحت هذه الآيات أمام الإنسان العربي باب الأمل في إمكانية توظيف قدرات الجن الخارقة، غير أن المرء ينسى أن للجن مجالات تدخّلٍ ضيّقةٍ مرتبطة ببعض الأنبياء والمرسلين، وأن للجن عالمهم الخاص الذي لا صلة له بعالم البشر.
إنَّ الإيمان بتأثير الجن على الإنسان، لا يرتبط بالأفراد محدودي الثقافة والفكر، وإنما نجد كثيرا من المتعلمين والمثقفين لا يزالون يعتقدون حتى الآن في أن بعض الأمراض النفسية والعصبية تنشأ أساسا من مسّ الجن أو العفريت للإنسان، أو أنه يتقمص جسده، ولذلك لا نستغرب وفود بعض المتعلمين على العرافين والسحرة ومدعي الاتصال بالعالم الغيبي أو امتلاك طاقة خارقة يعالجون بها المرضى بطرق غريبة؛ كاللمس والجراحة الروحية وإرسال ذبذبات الشفاء.. وما إلى ذلك من الحلول السحرية أو العاجلة التي يظهر أثرها في الحين ولا تكلف إنشاء مصحات ولا معدات، وإنما يكفي فيها الاعتقاد والتصديق ليحصل الأثر ويعم الشفاء بالبركة، ولعل هذا النمط من العلاج الخارق، يمكن عده تطبيبا نفسيا يركز على الانصات للمريض أو المضطرب والتفاعل مع آلامه وجدانيا، وفي لحظة معينة يتم إدخال فكرة شفائه التام إلى عقله الباطن ليتصرف جسده بناء على البرمجة الجديدة، فيشعر المريض بنوع من الهدوء أو الاطمئنان جراء دخوله منطقة الأمان التي يعززها لديه المعالج عبر إيحاءات تأكيدية تدفعه للإيمان الجازم بحتمية الشفاء التام والنهائي، ولأن العقل البشري لا يؤمن إلا بما يراه أمام عينيه، فإن المعالج بالخارق قد يوظف بعض الأدوات المادية مثل البخور والتمائم والعزائم والطلمسات والحجب والأقفال والمفاتيح.. وغيرها من الأدوات التي تعطي الانطباع بحل المشكل وجدوى العلاج بهذه الطريقة، فهي علامات تتجاوز البعد الوظيفي التقليدي إلى أبعاد أخرى دالة على خزان من المعاني الهائلة واللامتناهية والتي تملك القدرة على اختراق كل الحجب وتطهير النفس والذات من العلل والأمراض والعاهات، ولذلك يحظى عالم الجن بالغواية والإغراء، ويمثل منفذا للإنسان لكي يلج عوالم أخرى خارقة، تقدم تفسيرا غيبيا لما يعجز عنه العلم والقوانين الوضعية، أو ربما تقدم حلا غامضا لبعض الظواهر غير المرئية، والتي تقلق البشر وتجعلهم يتوقعون الشر في كل لحظة، فينسبون فعل ذلك إلى الجن والشياطين، وهي الكائنات الغامضة، فكما أنها تمثل مخلوقات غريبة ومجهولة الهوية، فلا يمكن تفسيرها إلا بجنسها وهو الغامض والمجهول وغير المرئي، فاللامعرفة تُفسَّرُ باللامعرفة، وعلى الباحث والدارس لمثل هذه الظواهر الغريبة أن يتعلم كيف يتعامل بشكل صحيح مع اللامعرفة.