بقلم: د. خالد التوزاني
إذا كان العائدُ من الأزمة مولوداً، والداخل إليها مفقوداً، فإنَّه في حالة فيروس كورونا قد يحدث العكس، إذ الخارجُ من هذه الجائحة قد يصيرُ مفقوداً، في حالة إهمال الاحترازات أو التخفيف من الوقاية الصحية، ولذلك تقتضي العودة إلى الحياة الاجتماعية جملة من الاحترازات من فيروس كورونا، فالقوي ليس الذي يصمد أمام العاصفة، بل القوي هو الذي ينحني لها ويميلُ مُغيِّراً وضعه وحاله، حتى تمر الأزمة وتهدأ الأوضاع، فيعود لوضعه الأول شامخاً مرتفعاً.
لا شك أن طول فترة الحجر الصحي قد شكّلت ضغطاً نفسيّاً لا يُستهانُ به وكان لها تأثير واضح على جوانب الحياة المختلفة؛ نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وأيضاً سياسياً على مستوى الدول والقارات، ولقد انتظر الناس الخروج من هذا الضيق بكل شوق، مع كل ما قد يحمله هذا الشوق من معاني التهور والانفعال والتسرّع، ولذلك تقتضي الحكمة أن يكون الخروج من حالة الحجر الصحي واستئناف الحياة الاجتماعية بعد أزمة فيروس كورونا خروجاً متدرِّجاً ومصحوباً باحتياطات صحية ووقائية، والتي تتجاوز تكثيف عمليات التنظيف والتعقيم إلى تعديل أنماط العادات الاجتماعية وخاصة في اللقاءات الشخصية والزيارات العائلية والأماكن العامة وداخل المؤسسات، والأعياد الدينية والوطنية والمناسبات العائلية والشخصية، وأيضاً ما له صلة بالعطل والسياحة والرحلات والترفيه وتدبير الحركة بشكل عام.
مع عودة الحياة الاجتماعية إلى سابق عهدها بفتح المؤسسات والمساجد والسماح بالتنقل والعمل والإنتاج..، قد ينسى الناس جائحة كورونا، في لحظة التفاعل الاجتماعي، فيتصرّفون بشكل طبيعي وتلقائي مثلما اعتادوا عليه، الشيء الذي سيؤدي حتماً إلى إهمال الوقاية، ومن ثم تهديد حياة الناس، بموجة ثانية وربما ثالثة من انتشار الفيروس، والعودة إلى نقطة الصفر، وهو ما لا يتمناه أحد، خاصة بعدما شهِدَ العالمُ الخسائر الفادحة التي تسبَّب فيها الفيروس، وتحديداً انهيار اقتصاديات العديد من الدول وتفكّك الروابط الاجتماعية.
ولدرء خطر نسيان الاحترازات الوقائية أو إهمالها، نقترح جملة من الخطط والإجراءات، والتي نجملها في الآتي:
- تكثيف حملات التوعية والتحسيس بأهمية الاستمرار في الوقاية والاقتصاد في العلاقات الاجتماعية، بتجنب الاختلاط غير الضروري، والحفاظ على مسافة الأمان في التواصل المباشر مع الآخرين، ليس فقط من أجل حماية أنفسنا، ولكن من أجل حماية الآخرين، وعلى رأسهم كبار السن والمرضى والضعفاء، علماً أن هذه الحملات ينبغي أن تتحوّل من الانترنيت والتلفاز، إلى مجال الحياة اليومية في واقع الناس، أي في الشوارع والإدارات وفي جدران البنايات ومحطات وسائل النقل وباحات الاستراحة وقاعات الانتظار وإشارات المرور.. في كل الأماكن العامة ينبغي أن توجد لافتات وملصقات تذكّر الناس بالوقاية والاحتياط، لأنه في غياب هذه المثيرات البصرية قد ينسى الناس الوقاية في خضم معركة الحياة الاجتماعية.
- أن تكون هذه العودة الاجتماعية في حدود الضروري، وأما الكماليات فيتم اختيار الأسلم منها والأكثر ابتعاداً عن مخاطر الإصابة، فالترفيه على سبيل المثال فيه أنواع، ينبغي الاقتصار على الأقل خطراً، أي الأقل احتكاكاً مع الناس، مثلا هناك الغابات والمنتزهات والجبال والصحاري والفضاءات الخضراء الواسعة، تعتبر الأفضل، في حين تعتبر الفنادق والمطاعم الأسوأ، نظرا لضيق هذه الأماكن وتزاحم الناس فيها وسرعة انتشار العدوى في الأطعمة والأواني وغيرها من الخدمات التي تُقَدَّم.
- الاستمرار في اعتماد التكنولوجيا في أداء الأعمال وخاصة الانترنيت، لأنه يقلّل من الحركة ويحدّ من التنقلات، وهذه الأخيرة هي مصدر كل بلاء، ففي التنقل يحدث الاحتكاك المباشر بمقابض الأبواب وتناول الأشياء باليد والمصافحة والاقتراب من الآخرين، وغير ذلك مما يقع عند كل خروج، ولذلك لا بد من الاقتصار على الضرورة وفي وقاية واحتياط، على الأقل خلال مدة معينة، حتى يتبيّن معدل انتشار الفيروس وحجم الضرر المحتمل.
- على أجهزة الدولة توفير كل التسهيلات للمرتفقين والموظفين من أجل تدبير سليم وأمثل لمرحلة العودة إلى الحياة الاجتماعية، بمعنى ليس الأفراد وحدهم مَنْ ينبغي أن يقوموا بتعديل سلوكهم ولكن المؤسسات أيضاً ينبغي أن تبذل جهداً في هذا السياق، بتوفير الخدمات عن بُعد، والتخفيف من الوثائق والحد من استعمال الأوراق أو كثرة التنقلات، وهذا يعني سنّ قوانين جديدة، ويعني أيضاً أن تضحّي تلك المؤسسات بجزء من أرباحها، عندما تتخلى عن بعض الامتيازات المادية.
ومع هذه الاحترازات والإجراءات الوقائية، لابد من التكيّف مع الوضع الجديد الذي يقتضي تكاثف جهود كل مكونات المجتمع، والعمل على نشر الوعي و قيم الإحساس بالمسؤولية، إذ ليست مهمة القضاء على الفيروس مقتصرة على المؤسسات العمومية والرسمية كالجهات الصحية فحسب، ولكن أيضاً يُعتبَرُ المواطنُ مسؤولاً مباشراً عن نجاح أجهزة تلك الدولة في أداء مهامها، بما يمثله من إحساس فردي وانتماء لمجتمع مدني له سلطته في التغيير أيضاً، ولنجاح الجهود التي تُبذل لا بد كذلك من تدخل الأمن والقضاء لردع المخالفين، فهناك تجار الأزمات الذين يحبون الاصطياد في الماء العكر بخلق الإشاعات وترويج الأكاذيب والمغالطات وزرع الشك في نفوس الناس وتزييف الوعي الجماعي وصناعة رأي عام مشوّه، من أجل الاستفادة من حالة الفوضى وعدم الاستقرار، فيرفعون الأسعار ويحتكرون السلع الأساسية، إلى جانب الغش والاحتيال والكذب والتزوير، الشيء الذي يقتضي من أجهزة الأمن المزيد من اليقظة والتأهّب لردع كل الاختلالات الملاحظة أو المحتمل حدوثها وتتبعها في سياق سياسة وقائية واستباقية، فبعض الظواهر الاجتماعية ينبغي القضاء عليها في المهد قبل أن تستشري في المجتمع فتشكّل نزيفاً وتدميراً لكل جهود البناء والحماية، ولذلك فإن التعامل مع عودة الحياة الاجتماعية بعد الموجة الأولى من جائحة كورونا، يحتاج إلى نمطين من المواجهة: الأول ما يُعرف بالوقاية الصحية والاحتياطات الفردية والجماعية التي يقوم بها الأفراد والمؤسسات، والثاني ما يُعرَف بالحرب على الشائعات ومستغليّ الأزمات، وفي النوعين معاً يبقى المواطن هو العنصر الأكثر قوة في نجاح التدخلات، عندما يلتزم بالقوانين، ويعمل على إخماد الشائعات بعدم ترويجها وأن تتوقف عنده، لأن وسائل التواصل الاجتماعي تغرق في بحر من الأخبار والمواقف والآراء مجهولة المصدر والتي يتم نقلها وتداولها دون تفكير عقلي أو تنوير فكري، بل يتحكم في سرعة انتشارها ذلك الحماس الشعبي الذي يميل مع الكثرة والوفرة، ويتعاطف مع الصورة والخبر، دون التثبت من المصدر الرسمي ومدى صحّته، وهذا الجانب يشكل نقطة الضعف الكبرى في المجتمعات المتخلّفة، بسبب سيادة الجهل والأمية والأنانية وسرعة الانفعال وتغييب العقل.. مما يخلق بيئة مناسبة لانتشار الخرافات والتأويلات غير الدقيقة: ومنها أن وباء كورونا من صنع الجن أو العفاريت، ومنها أنَّ الوباء يقتل أعداء الله فقط، ومنها أن الوباء مِن صُنع دولةٍ معينة لتدمير اقتصاد العالم، ومنها أنّ الوباء عقاب إلهي، وغير ذلك من التأويلات التي تجد إقبالا واسعاً وانتشاراً كبيراً في الأوساط الاجتماعية المتدنية التعليم والمحدودة الثقافة، فيخلق لدى تلك الفئات نزوعاً نحو اللامبالاة وعدم التقيّد بإجراءات الوقاية والسلامة، مما يجعل الاهتمام بمحاربة الجهل أولوية كبرى لا تقلّ عن ضرورة محاربة انتشار الفيروس.