بقلم: إدوار ثابت
ملخص العدد السابق
وينهي دراسته بالكلية العملية التي التحق بها على مضض منه ويلتحق بمعهد من المعاهد الفنية يتفوق فيه في دراسته في الثلاث سنوات الأولى منه فكان أول دفعته التي تتكون من حوالي خمسة وثلاثين طالباً وطالبة .
وما أن يقبل العام الرابع بالمعهد ، وهو عام التخرج حتى يلوح الحاقدون عليه من بعض الطلاب أو من أكثرهم ، بل ومع الأسف من بعض الأساتذة أما حقد الطلاب فقد كان سهلاً وهيناً عليه ، فلم يحفل به ولم يأبه له ، ولكنه كان يراه في عيونهم أما حقد الأساتذة فكان مختلفاً ، والغريب او الحقيقي معاً أن هؤلاء الأساتذة كانوا في قسم غير القسم الذي يدرس به ، وكأنما صيته قد سمّع خارجه ، وكانوا ثلاثة قد حصلوا على درجة الدكتوراة من روسيا عندما كان يذهب إليها البعض فيدرسون هناك فترة تطول أو تقصر فيأتون ثانية وقد حملوا هذه الأجازة أو ما يطلق عليها الشهادة التي تتيح لهم العمل في المجال الذي يناسبها أحياناً أو في غيره أحياناً ثانية أو بالأصح في المجال الذي يناسبونه هم بل لا يرتقون إليه ، ولايقوون على بلوغ مكانته ، فهم أقل منه بل وأضعف . أما أولهم فهو الدكتور شوقي ، والحق قد كان أقلهم حقداً ، ولم يكن واضحاً عليه ولكنه يغلفه بغلاف يخفيه يبدو خلفه في سلوكه معه وفي حديثه إليه ، فما أن يراه يوماً بمكان المعهد حتى يتندر معه فيما لا مجال للتندر فيه ، ويمزح معه فيما لا يستوعبه المزاح ، ويحاوره فيما لا يضارع الحوار الراقي ، فيتحدث إليه في ذلك بلهجة منكرة هي أقرب إلى السوقية منها إلى الرقي وأدنى من الشعبية منها إلى التحضر ، فيرى ويسمع منه ذلك ، فيستسخف مما يراه سلوكه ، ويستقبح فيما يتحدث به حديثه فيسمع وينصت على مضض منه ، وقد يومئ له في لا مبالاة أو يتطلع إليه رغماً عنه وكأنما ينفر ويشمئز مما يبديه بل وكأنما يزدري ما يقول ، ولكنه لم يكن يرغب في أن يجاريه فيما يبدي أو يعقب على ما يقول حتى لا يثير مشكلة يقتنصها هذا الدكتور يعرف هو نتيجتها ، ويخشى ما يخفيه منها .
أما ثانيهم وهو الدكتور إبراهيم فقد كان أكثرهم حقداً وضغينة ، وأكثرهم تحيزاً وعنصرية ، بل وأقبحهم خسة وغلاً فما فعله معه لا يقل عن تلك النقائص شيئاً بل يزيد . فإذا هو يراقب سلوكه ، ويتفحص حركاته ، بل ويسعى دائماً وفي أي وقت إلى إرهابه وتهديده بل وإلى ايذائه ، ثم أخذ يفعل ما ليس في حقه ، ولم يستطع في كل ذلك أن يخفي ما يضمره . كان يقيد حريته ويمنع تطلعه ، فيقول له في لهجة آمرة لا تحدث هذا ولاتتكلم مع هذه . ولاتجلس هكذا بمقصف المعهد ، ولا تتجول هكذا بانحائه ، فإذا رآه بمكان ما يسأله في غضب ماذا تفعل هنا ، فإذا أجابه يعارضه بل يمنع هدفه على الرغم من احترامه هو للمعهد وقوانينه ، فلم يسئ قط إلى شخص ما ، ولم يشكُ منه طالب أو طالبة أو غيرهما من الأساتذة ، فلم يشاغب طالباً أو أستاذاً وما تسيب يوماً في سلوكه . وما تجاوز مرة في أفعاله فلا يصيح في حديثه مثلما يفعل غيره . لا يتندر كما يفعل الكثيرون ، ولايهرج ولا يثير الجلبة مثلما يتسلى بهما بعض الطلاب ولكنه ينتظم في حضوره وحضور الدروس ويسمو بسلوكه وأفعاله ، فيتحدث في هدوء وأدب إلى كل من يراه ويجلس إليه ، ويحترم ويقدر قيمة العلم ومن يقدمونه من الأساتذة ، فإذا ضحك فضحكه خافت لا غلظ فيه ، وإذا مرح فمرحه هين لا فظاظة به . وأكبر الظن أن هذا الدكتور كان يراقب سلوكه ويترصد حركاته ويقيد حريته ، ويفرض عليه ما يفعل وما لا يفعل رغبة منه في شيئين أولهما هو أن يثير فيه ما يغضبه فينفعل ولا يتمالك نفسه فتحدث مشكلة يقتنصها فيضره لها ، ولكنه كان يدرك ذلك منه فيتماسك على مضض منه ، ويتحكم في نفسه رغماً عنه ، وهذا من غير شك ما كان يزيده توتراً ، فكأنما هو في حيرة مما يفعله معه ، أما الأمر الثاني فهو أن يدفعه إلى كره المعهد والنفور من حضوره ، فيؤثر ذلك على إستيعابه من الدروس التي تلقى عليه ثم معهما أو قبلهما أو بعدهما هما الضغينة والحقد اللذان يتملكانه وهما الغل والتحيز اللذان يغمران نفسه ولكنه كان رغم ضيقه يتحمل ولا يتأثر فهو يعرف ما بنفس هذا الأستاذ وما يلوح عليه من العنصرية وكره تفوقه في المعهد ولكنه لم يكره المعهد بل ظل يحبه وتستهويه موضعاته ودروسه فلم يهتز إستيعابه بل كان يقرأ ما عليه ويطَّلع على ما ليس عليه من الكتب والمراجع ليستزيد منهما ما لا يفعله أغلب الطلاب بل كلهم . ولم يكتف هذا الدكتور بذلك بل تعداه إلى أكثر منه ، فقد كانت هناك فتاة التحقت بالمعهد بعد التحاقه بعامين عرفت بعد أن تعرفت عليه كفاءته وتفوقه في دراسته وأحست معهما بثقافته وطيبته وذوقه وأدبه معاه ففرحت وأغتبطت عندما رأت حصوله على درجاته التي أهلته لأن يكون أول دفعته ، فكانت تستأذنه في أن يشرح لها ما يلتبس عليها من دروسها ، وما لا تستوعبه منها ، فلم يبخل عليها بشئ فكانت تجلس إليه بمقصف المعهد يفسر لها ما تحتاج منها إلى إستيعابه بل كان يعطي لها دفاتره التي كان يحضر فيها دروسه من المحاضرات ويضيف عليها من المراجع ومن ثقافته ما يقويها ، وعلى الرغم من احتفاظه بها فلم يكن يضن عليها بها فيقدمها لها في ترحيب تشكره عليه وتهنأ بها وكأنما قد حصلت منه على هدية ثمينة ، ويفرح هو مثلها بعطائه الذي لا يبخل به . وعندما كان يشرح لها درساً من الدروس يوضحه ويبسطه لها في سهولة ودقة معاً ، فقد كان يعرف ما يتعثر الطلاب في فهمه ، فيفصح لها عنه بأسلوب يذلل هذا التعثر ويزيد الفهم فكانت حينذاك تبتسم إليه وتبتهج وتقول له في سعادة أن شرحه أفضل من شرح الأساتذة الذين يدرسون لدفعتها وهي تستوعب منه أفضل مما تفهمه منهم وفي محاضراتهم بل ومن الكتب التي تقرؤها فأضحت دفاتره التي يعطيها إليها ما يفسره لها هما المرجع الذي ترجع إليه . وذات يوم تنتهي محاضرة من محاضراته ، فما أن يتجه إلى صالة المعهد حتى يقبل إليه ساع من السعاة يقول له أن الدكتور إبراهيم يرغب في أن يراه بمكتبه ، فيذهب إليه في توجس وفي حذر ، فما أن يدنو منه حتى يتطلع إليه وقد بدا عليه غضب لم يستطع إخفاءه أحس معه هو أن هناك مشكلة يسعى إليها فيسأله على الفور وفي شدة وكأنما قد حضر سؤاله من قبل : لماذا تحدث هذه الفتاة ؟ فيسأله أية فتاة ؟ فيقول له : لا تدعي الغباء ، الفتاة التي تجلس معها دائماً -سميرة – وينطق إسمها في حذر فينبئه أن ذلك لمساعدتها ، فهي تستأذنه في أن يشرح لها من الدروس ما يخفي عليها وما لا تستطيع أن تستوعبه منها فلم يتأخر عنها ، ولم ينتظر منه أكثر مما أوضحه له ، ولم يقوَ على أن يستفسره أو يناقشه وكأنما قد أضمر في نفسه ما سيحدثه به فيقول له في ضغينة وغل وفي شدة وزجر معاً بل وفيما يشبه الأمر ، أو كأنما هو الأمر : لا تحدثها ولا تشرح لها ولا تساعدها فهي كفيلة بأن تساعد نفسها وتهتم بشئونها ، فيرنو هو إلى عينيه ولكنه لم يفعل شيئاً فهو يعرف أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مشكلة يسعى إليها هذا الدكتور . وينصرف من أمامه وهو يجز عل أسنانه وفي نفسه غصة من ذلك الأستاذ وسلوكه القمئ ، ولم يستطع أن يفصح لسميرة عما حدث منه ، بل خجل من ذلك فأخفاه عنها ولكنه في نفس الوقت لم يقوَ على أن يبخل عنها بعطائه الذي تحتاج إليه ثم رأت هي بعد فترة قصيرة أن جلوسهما معاً لا يكفيها ولاسيما في العطلة التي تسبق الأمتحانات فكانت تدعوه إلى بيتها دائماً فلم يتأخر عنها ، فكان يشرح لها بين ذويها ما تحتاج إلى فهمه من دروسها في أسلوب بسيط ودقيق معاً يسهلان أستيعابها . وتبدأ أمتحاناتها فإذا هو يسألها بعد كل أمتحان تؤديه كيف أجابت بل كان ينتظرها بعده وكأنما ينتظر نتيجة عمله هو كما لو هي تلميذة من تلميذاته ، فما أن تنتهي منه وتتجه إلى صالة المعهد ، وما أن تراه ويراها وقد نات عنه حتى تبتسم إليه فيفرح لأبتسامتها ويعرف منها أجابتها فإذا دنت منه أفصحت له باشة مغتبطة أن أسئلة الأمتحانات كانت كلها فيما شرحه لها وتحدث إليها فيه . ويظل معها هكذا حتى نجحت فما أن تعرف نجاحها حتى تدنو منه وقد تملكتها سعادة غامرة معه لا تقل عن سعادته التي يرى بها نتيجة عمله وإذا هي تشكره وتفصح له في أغتباط أن دروسها التي شرحها لها هي المبرر لنجاحها . ومع كل ذلك لم يكتف هذا الدكتور فسعى إلى شئ ينم عن سخفه وبلاهته مع تلك النقائص التي تملأ نفسه ، كان ذلك أثناء أمتحان من أمتحانات هذا العام الرابع ، وقد أخذ يجيب في تركيز على أسئلة الأمتحان ‘ فاذأ الدكتور إبراهيم يتجه إلى صالة الأمتحانات ، فلا يتفحصها ولا يتحدث إلى الطلاب ، وإنما يدنو على الفور منه ويجلس على كرسي أمامه ، وكان هو يكتب بيده اليمنى ويده اليسرى مضمومة قليلاً فيقول له أن يفتح يده لعله يرى بها شيئاً ما ، فيفتح كفه ويريها له فإذا هي فارغة فيرنو هو إليه ويقول له في تحد وفيما يشبه الهجوم عليه . « أنا أعرف أكثر مما نأخذه من دروس المعهد وليس بي حاجة إلى أن أغش وأنا الأول على دفعتي والأول لا يمكن أن يغش وأنت تعرف ذلك «وقد كان متأكداً أن ما يفعله هذا الدكتور قد يضطره إلى أن ينفعل عليه رغماً عنه فتحدث مشكلة يأخذها عليه فيضره بها أو يهدف منها إلى أن يؤذيه بقدر ما يستطيع ففشل في ما يبتغيه ولكنه لم يتأثر بل ويظل متماسكاً ورزيناً وفي نفسه غصة منه ثم قد يكون سعيه إلى ذلك رغبة منه في أن يربكه ويشتت أنتباهه فيؤثران على أستيعابه في أجابته وعلى التركيز فيها ولكنه لم يأبه لسعيه فظل يكتب في أستيعاب وتركيز فما أن يسمع منه ما حدثه به في تحد حتى يومئ له في صمت وينتصب من مقعده يكاد يخفي خجله وخزيه ويبطن معهما الخسف والزلل وما هو في كل ذلك إلا الحقد والغل اللذان يغمران نفس هذا الدكتور بل ويغمرانه غمراً .
أما ثالث هؤلاء الأساتذة وهو الدكتور مصطفى فكان للأسف عميد المعهد ، ولكنه لم يحصل على هذا المنصب وتلك الترقية إلا عندما كان هو في السنة الرابعة وكان نوبياً يراه غريباً في منصبه فلم يعرف كيف أستطاع أن يلتحق بالمعهد ويحصل على درجة الدكتوراة من تلك البلد التي أوفد إليها مع زملائه فيضحى أستاذاً ثم عميداً ، ولكنه يعرف أن بعض هذه المناصب تكون بالقدم وليست بالكفاءة أو تعطى لأهل الثقة وليست لأهل الخبرة وهذه الثقة غالباً ما لا تكون في قوة الفهم والمعرفة أو رقي الشأن والمكانة وإنما هي في أشياء غيرها يعرفها الكثيرون . ومع ذلك أو برغم ذلك فقد كان يلحظ فيه ضعف علمه وثقافته وسوء خلقه وسلوكه معاً ، أما حقده فكان مختلفاً عن أولهم ومختلفاً عن ثانيهم ، كان خفياً خبيثاً يضمره اضمراً ولكنه يبدو في عينيه ، فكلما رأه إذا هو يتطلع إليه في صمت وتجهم معاً وكأنما هو في حيرة منه تكاد تعتصر نفسه عصراً . وفي يوم حدث شيئ غريب قلما يحدث وكان في أمتحان من الأمتحانات الشفوية ففي ذلك اليوم لم يحضر الأستاذ الخارجي الذي يرافق الممتحن فحضر الدكتور بدلاً منه . وأتجه هو إلى الصالة المجهزة بذلك أخر الطلاب كما يفعل دائماً ، وكان الدكتور مصطفى يدرس للطلاب بقسم غير القسم الذي يدرس فيه هو فما أن يجلس أمامهما حتى يسأله سؤالاً صعباً وكأنما يتحداه به وهو أن يوضح العلاقة بين القسمين وهذه هي صعوبته فيرنو إلى عينيه في دقة وفي تهجم وكأنما يتوقع منه إجابة خاطئة ويتأني هو وقد أستغرب من هذا السؤال وأدرك مع ذلك هدفه فالطالب لا يستطيع في سهولة أن يجيب عن هذا السؤال إلا إذا كان يدرس في القسمين وهذا ما لم يحدث ويتطلع إليه الأستاذ الثاني وكأنما يشفق عليه من إجابة هذا السؤال ويدهش منه أما هو فيستدني قراءاته واطلاعاته فلا يرى فيه صعوبة فيسترسل ويوضح له هذه العلاقة ويشرحها له في دقة يبتسم لها الأستاذ الثاني ويؤكدها هو ببعض المصطلحات الإنجليزية والفرنسية التي يعرف أن هذا الدكتور لا يفهم منها شيئاً والتي تزداد أبتسامة الأستاذ الثاني لها فما أن يسمع الدكتور مصطفى منه إجابته حتى يومئ له في صمت وتجهم فيأذن له أن ينصرف وكأنما قد تملكه الغيظ . وعلى الرغم من حبه لهذه الأمتحانات الشفوية التي يسعى فيها للحصول على الدرجة النهائية فقد كان يخشاها لأن حيثيات الإجابة فيها لا تكون مكتوبة فهي رقم يدون أمام الممتحن ولا يعرف كيف يوضع في أوراق إجابته ولاسيما عندما عرف أن هذا الدكتور مع الدكتور إبراهيم هما المسئولان عن رصد درجات طلاب المعهد ووضعها في نتائجهم بحجرة التفتيش أو المراقبة أو ما يطلق عليها ذلك اللفظ الذي يؤخذ من الفرنسية أو الإنجيلزية وهو (الكنترول) والتي لابد وأن تكون سرية وصحيحة أو لا تكون سرية وصحيحة فلا يحافظ عليها ولا يتلاعب فيها ولا يضع نتائجها كما هي إلا من يمتلك نفساً طيبة وراقية يراعي بها ضميره وتبيحها أخلاقه .
البقية في العدد القادم .