قصة بقلم : نعمة الله رياض
غادر الفتي سمهاري، وعمره ثمانية عشر عاما»، بلدته إلي العاصمة منف ليتلقي تعليما عاليا» يؤهله أن يصبح من الحكماء في مجال التطبيب والتحنيط أو تشييد المباني والمعابد التابعة لفرعون.
كان والد سمهاري يدرك أن إبنه الذي يتمتع بالوسامة وحسن الخلق، يتمتع أيضا بالذكاء والطموح. فلم يمانع في إرسالة للعاصمة للتعلم، بالرغم من حاجته الماسة لمساعدة إبنه في زراعة قطعة الأرض الخصبة التي يملكها علي ضفة النيل، وهكذا حمل سمهاري متاعه وإصطحب معه كلبه الأليف في سفر إستغرق أسبوعا» علي ظهر سفينة تنقل البضائع في النيل.
في منف أقام في دار مجانية لطالبي العلم المغتربين، يديرها بعض كهنة فرعون ومساعديهم. كان رئيس الدار الكاهن شيلا من المتزمتين الذين يحظرون علي الساكنين من الطلبة مباهج الحياة من علاقات صداقة مع الجنس الآخر أو شرب الجعة أو حضور الحفلات الراقصة الفرعونية , وما شابه ذلك. تحمل سماهري هذا النمط في الحياه تحت إدارة الكاهن شيلا علي أمل أن ينهي دراسته في اقصر وقت.
أصبح سمهاري من المتفوقين علي زملائه في دراسة علوم البناء، بفضل مثابرته في المذاكرة ومواظبته علي الحضور، مما أثار إعجاب معلميه خاصة معلمه شابكتا الذي إستراح له سمهاري لأرائه المتحررة، وكانا يقضيان وقتا بعد إنتهاء اليوم الدراسي يناقشان فيه مختلف الموضوعات.
ذات يوم، زارت فتاة مجلسهما، فقام شابكتا لتحيتها، وطبع قبلة علي جبينها وأشار إليها لتتعرف علي سمهاري:
- أعرفك يا إبنتي بسماهري وهو من أنبغ طالبي العلم عندي.
وأعرفك بمهالينا إبنة رئيس الكهنة، وقد أرسلها لأعلمها القراءة والكتابة الفرعونية وأشرح لها تاريخ الدولة الفرعونية..
نظر إليها سماهري وبهره جمالها الآخاذ، كانت ترتدي تنوره فاخرة، وهي قطعة مستطيلة من قماش الكتان المصبوغ، ملفوفه حول وسطها، ويتدلي طرفها من الأمام حتي أسفل الركبه، كذلك غطاء للأكتاف مطرز بالخرز الملون.
في هذا اليوم تغيرت حياة سماهري وأصبح يستعجل الوقت لينتهي اليوم الدراسي ويري مهالينا ويصطحبها بعد درسها حتي باب منزلها. هي أيضا» كانت معجبة للغايه به. وفي إحدي المرات، دعته لدخول منزلها ليتعرف علي والديها، كان والدها، رئيس الكهنة، جالسا في صدر القاعة بجسمه الضخم، يلبس زيا من التيل الملون وفوقه جلد نمر طبيعي، سأل سماهري: - قل لي، ماذا يعمل والدك؟
- عند أبي مزرعة علي ضفة النيل.
- وماذا تبغي من صداقتك لمهالينا؟
- سيدي، أنا أحب مهالينا، وأتمني أن تكون زوجتي.
نظر اليه بحدة وقال: - إياك أن تفكر في هذا! فإبنتي لن تتزوج إبن مزارع من طبقة العمال.
إنصرف سماهري حزينا»، ولكنه أبقي علي صداقته المتناميه مع مهالينا. شكا سماهري لمعلمه شابكتا ما حدث فقال له: - إعلم يا ولدي أن مصر يحكمها فرعون، وكثير من أوجه النشاط بها يحكمها بالتالي فراعنة صغار يتحكمون في مصائر مرؤوسيهم. وهكذا يكون رئيس الكهنة فرعونا في بيته وفي عمله وكلمته مطاعه. فإذا سألته من فرعنك يرد قائلا لم أجد من يعارضني!
في يوم مر رئيس الدار شيلا علي غرفة سماهري وقال له: - ماذا تدرس يا سماهري؟
- أدرس يا سيدي فن بناء المباني والمعابد.
- هذا عظيم. أنا أتوسم فيك الذكاء والتفوق، لذلك جئت لإعرض عليك أن نؤهلك لتصبح كاهنا» تابعا» لفرعون.
- ولكني علي وشك الإنتهاء من دراستي في فن بناء الابنية والمعابد، وانا أحب هذه المهنة.
- كثيرون غيرك يا سمهاري يعملون في هذا المجال، فلتكمل دراستك لترضي ذاتك، وبعدها سنحتفل بإختيارك كاهنا من كهنة فرعون, وأمامك فرصة لتترقي في العلوم وتصبح في زمرة سحرة فرعون ..أنا لا أختار سوي المميزين من طلاب العلم ليشغلوا هذا المنصب. سيكون لك مكانة إجتماعية مميزة، وسيمتلئ بيتك من خيرات القرابين والتقدمات.
- إسمح لي يا سيدي بقليل من الوقت لإعلمك بقراري.
- لا. يجب أن تقرر الآن، هل ستلبي رغبة الإله؟ أم لا ؟..
- لا يا سيدي ارجو إعفائي من ذلك. غضب شيلا من رده للغايه وقال:
- إذا» لا مكان لك في الدار، إبحث عن مكان آخر فورا»!
ذهب سمهاري لمعلمه شابكتا وسأله: - عرض علي شيلا رئيس الدار أن أصبح كاهنا» لفرعون ورفضت، فطردني من الدار.. فضلا إشرح لي، كيف يتعامل معي رجل دين بهذه التعنت والتعالي والعجرفه ؟
- إعلم يا ولدي، أن شعب مصر متدين بطبعه، منذ إستوطن الوادي، وقد عبد آلهة كثيرة وقد وحد الفرعون إخناتون الإله آتون إله أوحد ممثلا بقرص الشمس باشعة تنتهي بيد أدمية تمسك علامة الحياة. سأله سمهاري:
- وماذا عن الإله رع؟
- الإله رع أخذ صورة إنسان وعبد، كخالق للعالم منذ الأزل، يسافر في مركبه عبر السماء في النهار ويعبر العالم الآخر في الليل. وقد تم دمجه مع الإله آمون تحت إسم الإله آمون رع.
- لكنهم في القري والكور البعيدة عن العاصمة، ما زالوا يعتقدون في أسطورة ألإلهة إيزيس ويقدسونها بإعتبار انها أم الإله حورس الذي ولدته من زوجها الإله أوزوريس , وعندما كبر حورس هزم إله الشر (ست)!!
- هذه مهمة كهنة فرعون يا ولدي، أن يدعوا ويبشروا بالإله الواحد، فهل ينكر أحد أن الشمس موجودة منذ الأزل، وبدونها لا توجد حياة. لا زرع ولا ضرع. لقد تحول كهنة فرعون إلي مؤسسة راسخة وقوية تضاهي المؤسسة العسكرية، وكلتاهما تدينان بالولاء التام لفرعون، وهنا تحولت المؤسسة الدينية لآداة ترسخ الإيمان بأن فرعون وكهنته هما الوسيلة الوحيدة لنوال البركة في الحياة الدنيا والحياة الأخري. وهكذا أصبح العامة من الشعب ينقادون إنقيادا» أعمي لكهنة فرعون، بإعتبارهم ممثلين لفرعون، ومن ثم للإله الواحد.فيفرضون علي الشعب كيف يصلي ومواعيد الصلاة عند بزوغ الفجر وفي منتصف النهار وعندما يختفي اله الشمس رع في العالم الآخر ليلا». ويؤلفون له الأدعية الدينية ويفرضون ما هو الحلال والحرام من مأكل ومشرب وما يلبسونه من رداء، وما المباح والمحظور من العادات والعلاقات الإجتماعية.. عرفت الآن لماذا يتعنت معك الكاهن شيلا؟!
إستمرت علاقة سماهري بمهالينا عدة أعوام، توطد الحب بينهما وفي يوم، إقترب منها. نظر إلي وجهها الفاتن الذي طالما خلب لبه، وبدون تردد إحتضنها وقبلها. ابتسمت بعذوبة وبادلته القبلات والأحضان. وتكفل نداء الطبيعة بالباقي.
مرت ستة أشهر علي علاقتهما الحميمة, وأصبحت بطنها منتفخة وظاهرة للعيان بالرغم من الملابس الفضفاضة التي كانت ترتديها، وخشي سمهاري أن يعلم والدها فيقتلهما، فقرر أن يهرب مع مهالينا. قال لها: - سنهرب معا» إلي واحة سيوة وهناك سنكمل الرحلة إلي ميناء
الإسكندرية، ومنه قد نعبر البحر الكبير إلي الشاطئ الآخر. - أنا لم أسمع عن واحة سيوة هذه أو الإسكندرية!
- كيف لا تعرفين شيئا» عن الإسكندرية؟ لقد إحتل الإسكندر المقدوني،
الملقب بالإسكندر الأكبر، مصر منذ زمن قريب بدون مقاومة تذكر، لأن
المصريين كرهوا حكم الفرس، وفي طريق عودته ذهب لواحة سيوة حيث
نصب نفسه إبنا» للإله رع، ثم أكمل إلي موقع علي البحر الكبير أنشأه
ميناءا» سماه بإسمه. - ٍسأذهب معك يا سمهاري لآخر المسكونة، وليحرسنا الإله آمون رع.
- أنا أعرف دربا مختصرا» في الصحراء سنسلكه إلي واحة سيوة خلال ثلاثة أيام علي الأكثر.
إشتري سمهاري بغلا» قويا» وطعاما» من اللحم المقدد والسمك المملح وخبزا» محمص وكميه كافية من التمر والمياة , وكان الطعام والشراب يكفيهما في تقديرة لأكثر من أسبوع.
باكرا» في صباح يوم من أيام الصيف، ركبت مهالينا البغل، ووضعت امامها المتاع والطعام، بينما سار سمهاري بجانبها مع كلبه وهو يحمل قرب المياه علي كتفه ويمسك عصا» يستند عليها.. في اليوم الاول غادر الركب حدود العاصمة منف متوغلا» في الدرب المؤدي لواحة سيوة. كانوا يستريحون في الخيمة ساعات الظهيرة الحارة، ويستأنفون الرحلة عصرا» , وفي الليل يهتدي سمهاري بالنجوم حسبما تعلم من علوم الفلك. حرص سمهاري أن يدون مذكراته علي ورق البردي، يصف فيها ما لاقاه من تعسف كهنة فرعون كذلك وصفه أحداث كل يوم من أيام الرحلة للواحة.
سارت الرحلة علي ما يرام لثلاثة أيام، لكن علي غير المتوقع، هبت عاصفة رملية هوجاء إنعدمت فيها الرؤية واستمرت لثلاثة أيام أخري، وإضطروا فيها للإحتماء في الخيمة، وقارب علي الإنتهاء مخزونهم من المياه.
كانت الشمس ساطعة في كبد السماء، ترسل لهيبا» تتلظي منه حبات الرمال في الصحراء المترامية الأطراف، عندما إرتمي علي الرمال البغل الذي حملهم مع متاعهم لافظا» أنفاسه، تبعه الكلب الوفي الذي لم يفارقهم لحظة. نظر سمهاري إلي حبيبته التي تنازع الموت وأعطاها آخر جرعتين في قنينة الماء. أغمض عينيه بعد أن نظر طويلا إلي وجهها الشاحب المجهد.كانت مهالينا آخر من فارق الحياه، هي وجنينها الذي لم يري النور.
ومن مفارقات القدر, إنهم ماتوا من العطش علي بعد مسيرة نصف يوم فقط من بئر مياة محفورة بجانب الطريق!
مضت أسابيع عندما مرت قافلة من التجار الرحل ووجدوا الجثث، وقرأوا أوراق البردي التي كتبها سماهري وكانت يده متشبسة بها وعرفوا قصتهم. نقلوا جثثهم إلي الواحة حيث دفنوهم في مقبرة واحدة حسبما طلب سماهري، ومعهم أوراق البردي. وقد اكتشفت المقبرة بعد ذلك بآلاف السنين، ونشرت قصتهم كوثيقه تاريخية.
قال الجميع إنهم ضحايا للحب. ولم يقل أحد قط، انهم ضحايا لفرعون!!