بقلم: المطران ميلاد الجاويش
ليس سهلاً الترفّع، أمّا الدناءة ففي متناول اليد. لهذا الدنيؤون كثيرون والمترفّعون قليلون.
أن تترفّع هو أن ترفعَ نفسَك عن المغنم الخسيس، أن تجهد ألاّ ينحدر ميلُ قلبك نحو الحضيض.
لماذا بلادنا لا تتقدّم؟ لأنّ أغلب القيِّمين عليها دنيئون، يبتنون القصور المذهّبة ويرتضون لشعبهم سكنى الأكواخ والعمارات المهترئة. الدناءة هي أن تطلب العزّ لك وأن تُقنع غيرك بالفقر المدقع.
«عامِلِ الناس كما تريد من الناس أن يعاملوك» (لو 6: 31)، قاعدة ذهبيّة كهذه لا مكان لها عند المنحطّين. فهُم لا يُسَرّون للخير الذي ناله غيرهم، لا بل يُسَرّون إن سلبوا غيرهم الخيرَ الذي لهم.
ما أصلُ الدناءة؟ الدناءة جنينُ الطمع. الطمّاع يريد أن يحصل على كلّ شيء. في تراثنا الكتابيّ، خطيئة الإنسان الأوّل هي أنّه أراد أن يسيطر ويهيمن ويمحو المسافات ويحتلّ كلّ الأمكنة، حتّى مكان الله.
نسمع العامّةَ تتكلّم على «تفّاحة آدم»، وعلى آدم الذي نهاه الله أن يأكل من «شجرة التفّاح». في الرواية الأصليّة، ليس هناك من تفّاح ولا إجّاص ولا درّاق، بل «شجرة معرفة الخير والشرّ» (تك 2: 9). نهى الله الإنسانَ أن يأكل من هذه الشجرة كي يضع له حدًّا، مسافةً، فلا يظنّ نفسَه سيّد الكون المخَوَّل أن يحدّد ماهيّة الشرّ والخير.
في الإنسان، عادةً، جموحٌ نحو السيطرة، نحو إعلاء «أناه» فوق الجميع. «ألمانيا فوق الجميع»، شعارٌ أساء فهمَه النازيّون، فَجَرُّوا الويلات على وطنهم.
في الحدّ حياة، وفي المسافة حرّيّة. عندما أُطيع الحدود أحيا وأُحيي. عندما أترك مسافة بيني وبين الآخرين أتفادى الانصهار المقيت. كلّ الشرائع الوضعيّة قدّستِ الحدَّ وشرّعت المسافات بين البشر. «تنتهي حرّيّتك عندما تبدأ حرّيّة الآخرين»، هذا حدّ. يوم استراحة في الأسبوع، هذا حدّ. إشارة السير في الشارع، هذا حدّ.
في إنجيلنا، كلمة قاسية أوصى يسوع بها تلاميذَه: «من أراد أن يتبعني فليَكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مر 8: 34). بحسب معايير التسويق، كلمات كهذه لا زبائن لها، لا بل «تهشّل» كلّ زبون. لكن هذا هو الترفّع بعينه: ألاّ تضع نفسَك محورَ الكون، فتَقضيَ عمرك تلبّي حاجاتك التي لا تنتهي، وغالبًا على حساب الآخرين.
أن تكفر بنفسك هو أن تُفرغها وتُفسحَ فيها محلاًّ كي تسع أخاك الذي بقربك. هذا هو معنى «الصليب» الذي خيَّرَ يسوع أتباعه أن يحملوه: صليب الآخَر! صليب الزهد! صليب الترفّع!
«أَخرجوا من الدنيا قلوبَكم من قبلِ أن تَخرجَ منها أبدانُكم»، قال الإمام عليّ بن أبي طالب. هذه خارطة طريق لمن رام منّا الترفّع. فهلمّ بنا إلى العُلى!