بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
سبق للرئيس جو بايدن، منذ بداية حملته الإنتخابية في العام 2020، أن تعهد بجعل المملكة العربية السعودية دولة “منبوذة”، وبمقاطعة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وذلك على خلفية مقتل الصحافي السعودي المقيم في واشنطن جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول عام 2018، مشددا على جعل مسائل حقوق الإنسان في السعودية والصين وروسيا وغيرها من الدول أولوية في إدارته في حال نجاحه في الإنتخابات.
وبعد توليه الرئاسة في مطلع العام 2021، لم يتأخر بايدن في نشر تقرير المخابرات الأميركية الذي يحمّل الأمير بن سلمان مسؤولية مقتل الخاشقجي، وقد بقي بايدن على موقفه هذا حتى اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في أواخر شباط/فبراير 2022 وارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا والولايات المتحدة بشكل كبير نتيجة العقوبات على روسيا.
ستجري الإنتخابات التشريعية النصفية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام والإقتصاد الأميركي في حالة سيئة، والتضخم المالي مرتفع بشكل لم تشهده هذه الدولة منذ أربعة عقود، ونسبة التأييد للرئيس بايدن أقل من 40%، وحزبه يتمتع في الكونغرس بأكثرية ضئيلة جدا، وفي حال فوز الجمهوريين بالأكثرية، فإن برنامج بايدن التشريعي سيتعطل بشكل كبير، وكذلك وعوده الإنتخابية، هذا مع العلم بأن الوضع الإقتصادي في البلد له الـتأثير الأكبر على قرار الناخب الأميركي عند التصويت.
ومن جهة ثانية، فإن الإنخفاض الكبير في تدفق النفط والغاز الروسي الى الدول الأوروبية وارتفاع أسعاره بصورة جنونية كما أشرنا سابقا، جعلت بايدن يخشى من تردد بعض هذه الدول مثل إيطاليا وألمانيا وغيرها في الإستمرار في السير في العقوبات المفروضة على روسيا، وقد وجد نفسه مضطرا لمعالجة هذه الأوضاع الإقتصادية داخل الولايات المتحدة وفي أوروبا لتأمين مصادر للطاقة للتعويض عن النقص الناجم عن انخفاض التصدير الروسي، ما من شأنه تأمين بعض الإستقرار في أسعار الطاقة.
من هذا المنطلق، يهم كثيرا إدارة بايدن إنجاز مفاوضات عودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية النووية مع إيران لرفع العقوبات عن هذه الدولة تمكينا لها من تصدير النفط والغاز الى أوروبا، كما يهمه أن تزيد دول الخليج العربي وخاصة السعودية من إنتاجها من البترول والغاز لتزويد أوروبا والأسواق العالمية بهذه المواد الأساسية.
يضاف الى ذلك أنه أثناء ابتعاد بايدن عن السعودية، بدأت المملكة تنسج علاقات مع كل من روسيا والصين، خاصة وان إدارة بايدن لم تبتعد فقط عن السعودية، بل إنها لم تظهر اهتماما كافيا بالشرق الأوسط عامة وبالقضية الفلسطينية بالذات، باستثناء إعادة مساهمتها الى الأونروا وتقديم بعض المساعدات الإجتماعية للفلسطينيين والتأييد الكلامي البحت بحل الدولتين، مع استمرار الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومتابعة محاولات إدماج إسرائيل في المنطقة ضمن اتفاقيات ابراهيم.
على هذه الخلفية جاءت زيارة بايدن الى إسرائيل والأراضي الفلسطينية والسعودية والتي فرضتها الظروف الداخلية والخارجية معا، ولولا هذه الظروف لما قام بايدن بهذه الزيارة التي نتج عنها رابحون وخاسرون.
أولا: الرابحون: إسرائيل وولي العهد السعودي
1- إسرائيل
لا شك أن إسرائيل كانت الرابح الأكبر من هذه الزيارة إذ أن بايدن، منذ هبوط طائرته في المطار، أكد صهيونيته وتأييده لإسرائيل دولة يهودية، كما أن الإتفاقات االثنائية التي تم التوقيع عليها في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والدعم المالي الضخم، وتأكيد بايدن على السعي المتزايد لإدماج إسرائيل في المنطقة، وقبول السعودية بفتح أجوائها للطائرات الإسرائيلية المدنية ما يوفر للرحلات الإسرائيلية الى آسيا كثيرا من الوقت والوقود، ويشكل خطوة في طريق تطبيع العلاقات مع المملكة رغم عدم استعداد الأخيرة في الوقت الحاضر لإقامة علاقات دبلوماسية تامة مع الدولة العبرية، كل هذه الأمور تشكل انتصارا كبيرا لإسرائيل.
من جهة ثانية، بدا بايدن في خطاباته أثناء زيارته لإسرائيل وفي جميع مواقفه، وكأنه يزايد على سلفه ترامب في تأييده لإسرائيل، وفي الوقت الذي رأينا فيه بايدن منذ حملته الإنتخابية يخالف ترامب في كل شيء، فإنه يتوافق معه في موضوع إسرائيل، لا بل يحاول أن يتفوق عليه في إظهار محبته وتأييده للدولة العبرية بصورة غير مسبوقة من أي رئيس أميركي.
يبدو أن بايدن شاء أن يؤكد من جديد ما هو معروف عنه من تأييد تام للدولة العبرية منذ بداية عمله السياسي في مجلس الشيوخ منذ خمسين سنة، ثم نائبا للرئيس أوباما، والآن رئيسا للولايات المتحدة، ولكنه في هذه الزيارة أكد من جديد أن الولايات المتحدة كانت وستبقى داعمة لإسرائيل بقوة وبدون حدود، معتبرة إياها بمثابة الولاية الحادية والخمسين من الولايات المتحدة، وقد بدا ذلك واضحا من خلال ما عُرف بإعلان القدس.
2- ألأمير محمد بن سلمان
ولي العهد السعودي كان أيضا رابحا كبيرا من زيارة بايدن الى المملكة. فهو لم يغيّر قيد أنملة من مواقفه، بينما تخلى الرئيس بايدن عن التزاماته المعلنة بقوة عن حقوق الإنسان، وتخلى أيضا عن مواقفه السابقة تجاه المملكة، وجاء إليها غير مرفوع الرأس، مُظهرا حاجة بلاده للنفط السعودي، مؤكدا بذلك أن سياسة المصالح تعلو على سياسة القيم. جدير بالإشارة هنا ان الأمير محمد بن سلمان تعاطى مع الرئيس الأميركي تعاطي الند للند في جميع المناسبات التي جمعتهما، وذلك بالرغم من كونه ولي العهد وليس الملك.
من جهة ثانية، تمكن بن سلمان من تثبيت أهمية المملكة ودورها القيادي ليس فقط في شؤون المنطقة، ولكن أيضا في الشؤون الدولية وفي طليعتها الحرب الدائرة في أوكرانيا، وحاجة أوروبا والولايات المتحدة الى النفط السعودي، علما أن ولي العهد لن يتراجع عن العلاقات التي بدأ ببنائها مع كل من روسيا والصين إكراما للرئيس الأميركي، مظهرا بذلك استقلالية المملكة في خياراتها الدولية.
ثانيا: الخاسران: القضية الفلسطينية والرئيس بايدن
1- القضية الفلسطينية
بالرغم من أن الرئيس الأميركي جو بايدن زار الأراضي الفلسطينية حيث التقى رئيس السلطة الوطنية في بيت لحم، إلا أن هذا اللقاء، من خلال المواقف التي أعلنها بايدن وتصريحاته للإعلام، شكل تراجعا واضحا للقضية الفلسطينية.
لم تتجاوز زيارة بايدن للأراضي الفلسطينية ساعتين من الزمن جدد فيها موقفه من حل الدولتين دون أية إيضاحات حول ما ستقوم به إدارته في سبيل تحقيق ذلك، علما انه لم يعين حتى الآن مندوبا لمتابعة الوضع في فلسطين، وقد صرح بوضوح تام، وربما بزلّة لسان، أن حل الدولتين سيأخذ وقتا طويلا. بايدن جدد أيضا بصورة علنية اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل كدولة يهودية، وهذه أمور غير مقبولة لدى الفلسطينيين على الإطلاق.
معروف كيف أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب غيّر بالكامل الموقف الأميركي تجاه القضية الفلسطينية عبر الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتبار الأراضي الفلسطينية المحتلة وهضبة الجولان أراض إسرائيلية، وأقفل القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وأوقف مساهمة بلاده في ميزانية الأونروا وجميع المساعدات عن الفلسطينيين. وعندما تسلم بايدن الرئاسة، وبالرغم من مواقفه المخالفة لسياسة ترامب عامة، اكتفى بإعادة المساهمة الأميركية الى الأونروا وبعض المساعدات المادية الى الفلسطينيين، ولم يف حتى الآن بوعده بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس ومكتب فلسطين في واشنطن.
أثناء زيارته الى الأراضي الفلسطينية، تباهى بايدن ببعض المساعدات الإنسانية والإجتماعية التي وعد بتخصيصها للفلسطينيين، علما أن مواقفه السياسية تجاه القضية ليست سوى مجرد كلام إعلامي، إذ لم يشر الى أية خطوة عملية في سبيل تحقيق تقدم ما في هذه القضية التي لم تستفد إطلاقا من زيارته الى المنطقة، والتي لا يمكن أن تحرز تقدما ملموسا دون تدخل أميركي مباشر.
2- الرئيس جو بايدن
لم ينجح بايدن في تحقيق أهداف زيارته سواء لجهة تخفيض أسعار الطاقة عبر زيادة إنتاج البترول والغاز الخليجي، أو عبر خلق منظومة أمنية عربية-إسرائيلية في مواجهة إيران، كما أنه تعرض في الداخل الأميركي لانتقادات قوية، حتى من داخل حزبه، لقيامه بزيارة المملكة ولقائه بولي العهد خلافا لمواقفه السابقة.
فبالنسبة الى إعلان السعودية عن زيادة إنتاجها للوصول الى 13 مليون برميل في اليوم خلال فترة شهرين فقط، فإن ذلك لن يؤدي الى تغيير ملموس في الأسعار لأن زيادة 4 ملايين برميل لن تكون كافية، بأي شكل من الأشكال، للتعويض عن النقص الناتج عن انخفاض التصدير الروسي الى أوروبا، وقد سمعنا الرئيس الفرنسي ماكرون يهيء مواطنيه لفصل شتاء قادم سيكون صعبا وقاسيا.
أما لجهة تشكيل حلف أمني عربي-إسرائيلي في مواجهة إيران، فقد سمع بايدن من معظم القادة العرب الذين اجتمع بهم في “قمة الأمن والتنمية” في جدة عدم الموافقة على المضي في تحقيق هذا المشروع، كما أن الإمارات العربية المتحدة أعلنت بوضوح تام عدم استعدادها للدخول في أية محاور ضد أية دولة أو مجموعة دول، مؤكدة قرارها إرسال سفير الى طهران. هذا مع العلم ان المملكة السعودية من جهتها تجري محادثات مع إيران بوساطة عراقية.
قد يكون النجاح الوحيد الذي حققه بايدن في هذه الزيارة هو إقناع المملكة بالسماح للطائرات الإسرائيلية المدنية بالتحليق في أجوائها، ولكن ذلك يعتبر مكسبا لإسرائيل وليس للولايات المتحدة، يضاف الى ذلك ان بايدن، بالرغم من تأييده المطلق ومساعداته المادية الكبرى لإسرائيل، لم يجد تأييدا إسرائيليا واضحا للإتفاقية النووية مع إيران في حال الوصول الى نتيجة في المفاوضات.
أما على الصعيد الأميركي الداخلي، فلم يحقق بايدن أي تقدم في نسبة التأييد له بل على عكس ذلك، إذ أن آخر استقصاء للرأي بعد عودته الى الولايات المتحدة سجل تراجعا إذ بلغت نسبة التأييد له 33% فقط ونسبة المعارضة 60% وهو يتعرض لانتقادات قوية كونه ساهم في خلق جو من قلة الثقة بالولايات المتحدة بسبب التبدل الكبير في سياسته المعلنة، وهذا ما يفسر داخليا قلة الثقة بإدارته للبلاد.
مع اقتراب موعد الإنتخابات النصفية، يبدو أن بايدن ليس عنده الوقت الكافي أو القدرة على تغيير الوضع الإقتصادي وتطمين الأميركيين بأن إدارته تسير في الخط الصحيح، لذلك يتوقع معظم المراقبين عدم تمكن الحزب الديمقراطي من الإحتفاظ بالأكثرية المحدودة جدا التي يمتلكها حاليا في الكونغرس، والزيارة الى الشرق الأوسط التي كان يأمل من خلالها تحسين وضعه ووضع حزبه الإنتخابي أدت الى عكس ذلك وزادت من الإنطباع السائد بأنه رئيس ضعيف وينبغي عليه عدم الترشح لولاية ثانية بعد سنتين من الآن، وقد خسر قسما كبيرا من المؤيدين العرب الأميركيين بسبب مواقفه المتطرفة تأييدا لإسرائيل، كما خسر بعض التأييد داخل حزبه من جراء انقلابه على القيم التي سبق أن تعهد بجعلها أولوية في إدارته.