بقلم: د. خالد التوزاني
صدر ضمن منشورات المركز المغربي للاستثمار الثقافي – مساق- كتاب جديد، للمؤلف الأستاذ الباحث مبارك السعداني، في طبعته الأولى، عن مطبعة بلال، بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس، وفي طبعة أنيقة وفاخرة، صمّم غلافها الأديب والناقد والفنان أمجد مجدوب رشيد، خريج ماستر الكتابة ومهن الكتاب، وقد كتب تقديماً للكتاب الأستاذ الدكتور محمد بوحمدي، الأستاذ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وقد وصف موضوع الكتاب بالجديد والطريف وغير المسبوق، ويضيف قائلا: “فرغم أن التراث النحوي والبلاغي للإمام عبد القاهر الجرجاني حظي بعناية خاصة من الباحثين الأكاديميين، إلا أن الجانب المتعلق بالشاهد القرآني في (أسرار البلاغة) لا يكاد يذكر. ومن هنا أهمية هذا البحث، وقيمته العلمية، وجدته وطرافته موضوعا، وتناولا، وأسلوبا.”
يعد الشاهد ركيزة أساسية اعتمدها العلماء العرب القدامى باختلاف توجهاتهم العلمية والفكرية، فقد وظفه واللغويون النحاة، المتكلمون والمفسرون، البلاغيون والنقاد وغيرهم في مختلف أغراضهم البحثية لتدعيم حججهم ونصرة مذاهبهم. وقد تنوعت شواهدهم بتنوع أهدافهم ومقاصدهم. وهي شواهد في غالبيتها إما أن تكون من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، وإما من أشعار العرب أو أقوال حكمائهم..
إن الشاهد ليس مجرد وسيلة للإيضاح، أو وسيط إجرائي تستنبط منه القواعد، أو يكون دليلا مؤكدا لها، بل هو أكثر من ذلك، إنه علامة لها مدلولاتها في إطار السياقات التناصية التي توظف فيها. ومن ثمة فإن تتبعها بالدرس والتحليل يكشف عن كثير من القضايا المنهجية والنظرية والفكرية في كتب القدماء.
ركزت هذه الدراسة على الشاهد القرآني في كتاب “أسرار البلاغة” للعلامة الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 474 هجرية، وهو عالم موسوعي أحاط بعلوم عصره المختلفة كالنحو واللغة، التفسير والاعجاز، الأدب والنقد. وقد تجلت موسوعيته ونبوغه في استيعاب ثقافة عصره في كتابيه الشهيرين في مضمار البلاغة وهما (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة).
وقد انطلـقت هذه الدراسة للشاهد القرآني في( أسرار البلاغة) من فرضيتين ظلتا تحكمانها وتقودان خطواتها إلى منتهاها:
- الأولى: إنــه رغم قلـة الشواهد القرآنية في “أسرار البلاغة”، فإنها ظلت حاضرة في فكر المؤلف وتصوره، منها ينطلق وإليها يعود باعتبارها أنموذجا للبلاغة الراقية والاعجاز المطلق. ومن هنا فإن توظيف الشواهد الشعرية بكثرة ما هي إلا وسيلة لإظهار بلاغة القرآن وإعجازه.
- الثانية: إن لطبيعة المواضيع المعالجة والسياق الذي ترد فيه ومقصدية المؤلف دورا حاسما في انتقاء شواهده، وبالتالي الإكثار من بعضها والإقلال من بعضها الآخر.
وإذا أردنا الاقتراب أكثر من موضوع الكتاب، فقد انطلق الباحث الأستاذ مبارك السعداني في تعريف الشاهد من دلالاته اللغوية وحصرها في الأنساق التالية: نسق الدين، نسق القضاء، نسق الحضور والمعاينة ونسق الدليل، فخلص إلى ان المعنى الإصطلاحي للشاهد لا يبتعد كثيرا عن دلالته اللغوية؛ فهو جزء يقتطع من كل تستنبط منه القواعد أو يكون دليلا عليها. وميز بين الشاهد عند النحاة واللغويين الذين أخذوا شواهدهم من القرآن وكلام العرب الموثوق في عربيتهم وحددوا لذلك القرن الثاني الهجري وما قبله. وحصروا استقاء الشاهد من أهل الوبر(البادية) واستثنوا أهل الحضر لفشو اللحن في لغتهم لأنهم من المولدين (الأعاجم) أو اختلطوا بهم. واختلفوا في الاستشهاد بالحديث النبوي.
أما البلاغيون، وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني، فقد أخذوا شواهدهم من القرآن والحديث النبوي وكلام العرب سواء أكانوا من أهل الوبر أم من أهل الحضر ولم يتقيدوا بفترة زمنية ،كما فعل أهل اللغة والنحاة، لذلك استشهدوا بكلام العرب الأقحاح وكلام المولدين من أهل الحضر كأبي تمام والبحتري وغيرهما.
أخضع الباحث الأستاذ مبارك السعداني الشواهد الواردة في كتاب (أسرار البلاغة ) لإحصاء دقيق فخلص إلى النتائج الآتية:
الشواهد الشعرية: (365 شاهدا)، القرآن الكريم: (56 شاهدا)، الحديث النبوي: (32 شاهدا) ،أقوال العرب وأمثالهم : (16 شاهدا).
على الرغم من قلة الشواهد القرآنية في الكتاب مقارنة بالشواهد الشعرية فإن الجرجاني يعتبر القرآن قمة في البلاغة والإعجاز. كما أنه لم يستبعد الشواهد الحديثية.
إن العناصر التي تتحكم في حضور الشاهد أو غيابه عند الجرجاني هي طبيعة الموضوع وسياقه ومقصدية المؤلف منه. وبناء على هذا الاعتبار قسم الباحث كتاب (أسرار البلاغة ) إلى قسمين كبيرين: 1) الأول يتضمن عناصر الصورة الشعرية ؛ الاستعارة ، التشبيه والتشبيه التمثيل، مع ملاحظة غياب عنصر مهم هو الكناية ، وربما اكتفى بما ذكره عنها في كتاب (دلائل الإعجاز ). وقد حضر في هذا القسم الشاهد الشعري بكثرة (346 شاهدا) لأن غايته من هذا القسم تحليل عناصر الصورة الشعرية لاستنباط قواعد علم البيان كما حضرت فيه مواضيع خاصة بالشعر كالسرقات الشعرية.
خصص أيضاً حيزاً لدراسة الحقيقة والمجاز، وقد حضرت فيه الشواهد القرآنية (35 شاهدا) أكثر من الشواهد الشعرية ( 19 شاهدا) . وتفسر هذا الأمر راجع إلى سياق الجدل بين الدائر منكري المجاز وهم أهل الظاهر وبين المغالين في التأويل من المعتزلة وغيرهم. وغرض الجرجاني (الأشعري) من الحديث عن المجاز هو الرد على الطائفتين معا، وكلاهما يشكل خطرا على عقيدة المسلم؛ فأهل الظاهر يسقطون في التجسيم والتشبيه. أما الغلاة في التأويل فيستكرهون الألفاظ على ما لم تقله من المعاني، ويتركون السليم ويجرون وراء السقيم. وهكذا جاء موقف الجرجاني معتدلا وسطيا في أمر المجاز؛ لا ينكره ولا يغالي فيه. لذلك اجتهد لبيان الطريقة التي يصل بها المؤول إلى المجاز. ومن هنا حدد أقسامه وطرائقه والجائز منها والمنكر. وكل ذلك حماية لعقيدة المسلم ودفعا للشبهات.
لقد بين الباحث أن ما يتحكم في حضور الشاهد أوغيابه هو طبيعة الموضوع والسياق الذي يرد فيه ومقصدية المؤلف منه. فهكذا هيمن على القسم الأول الشاهد الشعري لأن الجرجاني رام تحليل عناصر الصورة الشعرية واستنباط قواعدها دون أن تغيب الشواهد القرآنية حين تكون الحاجة ملحة إليها. في حين طغت في القسم الثاني الشواهد القرآنية لأنه، بالإضافة الى تقعيد المجاز، سعى إلى حل الخلاف بين الرافضين للمجاز والمغالين فيه وذلك بتبني موقف وسط مبني على قاعدة لا إفراط ولا تفريط. جاء توظف الجرجاني لشواهده القرآنية في صورة آية كاملة أو جزء منها، فتارة يذكر الشاهد دون ان يحلله أو يعلق عليه، وتارة يطيل الوقوف عند تحليلا وتعليقا. وهو الشيء ذاته الذي ينهجه مع كافة الشواهد في كتابه. لقد جاء تحليله للشواهد القرآنية متنوعا. فطورا يولي دلالة الشاهد عناية فائقة فيحلل دلالاته العميقة كما فعل مثلا مع الآية 5 من سورة الجمعة ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا.) حيث اطال الوقوف عند دلالاتها مبينا جمالية التشبيه التمثيلي الذي يكون فيه وجه الشبه منتزعا من متعدد. بالإضافة إلى هذا الشاهد حلل شواهد أخرى على المستوى الدلالي وكان في تحليله يتجاوز المعنى السطحي الذي يسميه المعنى إلى المعنى العميق الذي يسميه معنى المعنى. وقد خص شواهد أخرى بتحليلها تركيبيا مستحضرا مفهومه لنظرية النظم التي تهتم بموقع اللفظة في الكلام وعلاقتها بغيرها من الكلمات، والإعجاز يحصل حين يتجاوز المتكلم مرتبة صحة الكلام إلى مراتب الحسن وجمالية التعبير. وقد وقف طويلا عند الآية 24 من سورة يونس: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس” وقد ركز تحليلة على كون الآية فيها تشبيه تمثيلي مبني على عشر جمل متعالقة بينها لا يمكن الاستغناء عن واحدة منها، لأنها مترابطة حتى صارت في حكم الجملة الواحدة. ومن هنا جمالية هذا التشبيه التمثيل الذي ينتزع منه وجه الشبه من مجموع الجمل . كما وقف على شاهد قرآني وحلله على المستوى المعجمي.
في الفصل الثالث عقد الباحث مقارنة بين الشاهدين القرآني والشعري؛ فلاحظ حضورا كميا لافتا للنظر للشاهد الشعري .فاستقرأ رأي الجرجاني حول هذا الحضور وخلص إلى أن الشاهد الشعري ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة لفهم القرآن وإظهار إعجازه. وقد أبان الجرجاني على مقدرة عالية في تحليل شواهده الشعرية وذوق جمالي رفيع كشف عن ناقد أدبي له قدرة على فهم آليات الشعر وجماليته وخاصة شعر العصر العباسي. كما وقف على تحليل الجرجاني لشاهد شعري وآخر قرآني حول الموضوع نفسه وخلص إلى نتائج نجملها في الآتي:
اعتبار القرآن هو الأصل الذي يستقي منه الجرجاني تصوره للعناصر البلاغية التي يحللها وخاصة مكونات الصورة الشعرية، ومن هنا يكون تحليله أوفى وأعمق للشواهد القرآنية. كما أن تحليله للشواهد الشعرية يركز على الجزئيات بينما يستنبط من الشواهد القرآنية الصور الكلية لعناصر علم البيان.
أخيراً خلص الباحث الأستاذ مبارك السعداني الى جملة من النتائح، ومنها:
لقراءة الجرجاني وفهمه ينبغي استحضار: ثقافة عصره، نضج النظرية البلاغية والنقدية واستفادته من جهود غيره، استحضار طريقته في التـأليف والتصنيف. وتكمن أهمية الشاهد القرآني عند الجرجاني رغم قلته من حيث العدد باعتباره قمة في البلاغة والاعجاز. كما تلعب طبيعة الموضوع والسياق الذي ورد فيه ومقصدية الجرجاني دورا حاسما في اختيار شواهده.
لقد كان للشاهد دور أساسي في أسرار البلاغة لأنه يدخل في التصور المنهجي والنظري للمؤلف.