بقلم: إدوار ثابت
ملخص العدد السابق
أحبها رغماً عنه ومن غير أن يتحكم في نفسه ودون أن يدري أو يحتاط فهي متزوجة وقد أطلع على كتاب أستاندال الأديب الفرنسي (عن الحب) الذي تحدث فيه عن نشأة الحب وتطوره فوضع لذلك سبع مراحل . أما هو فقد مر بكل هذه المراحل معها .
وقال أحمد شوقي في قصيدة له عن تطور الحب نظرة فأبتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وقد مر هو معها كذلك بهذه المراحل التي يتحدث عنها أحمد شوقي في هذا البيت من قصيدته .
ماذا يفعل هو وقد أحبها ذلك الحب القوي الذي سيطر عليه وتملك منه هذا العشق الذي لا يتخفف منه فظمئ إليها وألتاع بالحرمان منها ويغير أنكار أو شك قد يتعرض البعض لمثل ما تعرض له يتشابهون ويختلفون فمنهم من يدنو ممن يعشقها هادئاً رقيقاً فيتغزل فيها : في خصالها وجمالها أو في سلوكها وأسلوبها وحديثها وضحكاتها أو في سيرها وحركاتها بل وفي أجزاء من جسمها حتى يستهويها ما بغزله ويغريها بحديثه ومنهم ما أن يراها حتى يفصح لها عن هواه ويبدي لها عشقه حتى يمس بهما نفسها فتحن إليه لعلها تبادله حباً بحب وعشقاً بعشق ومنهم الذي يعرض عليها ما يؤرقه من الصبوة وما يولعه من الحرمان رغبة منه في أن ترأف به فتروي صبوته وتزيل حرمانه بما تسعى وتقرر ثم منهم من لا يتحمل فيشتد يلاحقها ويطاردها لا يتأنئ ولا يهدأ لعلها يوماً تلين فتدنو منه وتحقق له رغبته ثم منهم من يأتي إليها متوارياً يخترع الأساليب والحيل يخدعها بهما في أمر تحتاج إليه لينفذه لها حتى تنقاض إليه فيقتنص ذلك الأنقياض حتى يخلو بها فيحقق ما يصبو إليه بل منهم ذلك الذي لا يستطيع أن يصبر على حرمانه فلا يرزن ولا يتروى وإنما ينبري لها فيبرز رغبته فيها وشغفه بها ليمس غريزتها ويثير فيها الرغبة لعلها تهفو وتثار بل منهم من ينفعل فينثني نحوها يحتضنها أو يقبلها ليشفي غليله ويروي عطشه إليها وهناك منهم من يتجه إليها فظاً غليظاً أو عصبياً مستنفراً فيستغل ضعفاً فيها أو ثغرة بها أو مشكلة تعتريها لينفذ بذلك إليها فتتبعه وتستسلم له وقد يكثر في ذلك فيهددها ويخفيها رغبة منه في أن تخضع له وقد تضطر إلى ما يهدف إليه فلا تستطيع أن تقاوم أو ترفض رغبته فيه.
أما هو فليس من أولئك وهؤلاء ، لا يفعل ما يفعلون ولا يسعى إلى ما يسعون إليه فهو شاعر والشاعر به ما ليس بعامة الناس فالشعر هو الذي يخفف عنه ويحل ذلك الصراع بين حبه وأشتياقه إليها وبين إلتياعه وحرمانه منها . يقول سيجموند فرويد في نظرية التحليل النفسي التي وضعها في آواخر القرن التاسع عشر أن المحتوى النفسي للإنسان يتكون من ثلاثة أركان : أولها هو ما يسمى (الهو ID) وهو مستودع الرغبة أو بالأصح اللذة أو هو منبه الدوافع والرغبات التي تخضع للغرائز المختلفة مثل الجوع والعطش والدافع الجنسي والرغبة الجنسية ، أما الركن الثاني فهو ما يسمى (الأنا الأعلى SUPER EGO ) وهو ما يحبط اللذة أو يعارض الرغبة كالتقاليد المختلفة كثيرة الأنماط والمثل العليا التي يقتنع بها الإنسان وقد يرفضها كذلك ثم (الأنا EGO) وهذا الركن يرتكز على مبدأ الواقع ولذا فهو يهدف بذلك إلى تحقيق التوازن أو قل: حل الصراع بين المتناقضين والمتعارضين في الأهداف : الهو والأنا الأعلى . فالشخص قد يرغب في أمر ما يحقق له لذة ما ولكن قد تتعارض مع تلك اللذة أو تتناقض معها بعض التقاليد فتحبطها فينشأ الصراع بين الطرفين المتعارضين أي بين الهو والأنا الأعلى فيوازن الأنا بين الأثنين ليحل ذلك الصراع بأنماط مختلفة تصدر عن الشخص أو منه فيكون الأنا بذلك هو حل توفيقي أو قل : تلفيقي بين الرغبة ونقيضها من ناحية ويكون هو نفسه أي الأنا تحقيق للرغبة ولكن بأسلوب مقنع من ناحية ثانية ويقول فرويد أن هذه الأنماط المختلفة للحل هي : الهفوة أو فلتة اللسان ، والحلم والمرض النفسي وكلها حل توفيقي للصراع بين الرغبة ونقيضها وكلها مع ذلك تحقيق للرغبة غير أن المرض النفسي حل الصراع وتحقيق الرغبة فيه مؤلمان ومرهقان بلا شك فهو دفاع اللا وعي بتحريف الواقع الذي يتسلط فيه الخوف أو القلق أو الضيق أو الرغبة المحبطة لتتسلط فيه الرغبة المرضية أو المحرفة أما الهفوة أو فلتة اللسان فهي لفظة ينطق بها الشخص خطأً بدلاً من لفظ غيرها أو يفهمها محكية أو مكتوبة أو يقرؤها أو يفصح عنها بأسلوب خاطئ تعمل فيه (الأنا) على تحريف الواقع كبديل للقلق أو الرغبة أو لضغط أو صراع داخلي بين شعورين متناقضين ومن الأمثلة الشائعة للهفوة أن قاضياً في بلد ما أتجه إلى قاعة المحكمة وجلس على مقعده وبدلاً من أن يقول فتُحت الجلسة يقول رفُعت الجلسة وهذه الهفوة بتحليلها النفسي توضح عدم الرغبة عند القاضي في حضور الجلسة أو في الأسراع بإنهائها كمبرر قد لا يعرفه غيره ولكن تقاليد وضوابط مهنته تتعارض مع رغبته وتمنعه عن ذلك ولهذا صدرت عنه تلك الهفوة أو فلتة اللسان . أما الحلم فهو ينتج عن مشاعر كامنة ومرغوبة تثور في نفس الإنسان يحققها كحل توفيقي لها وللحلم أمثلة كثيرة تتشابه وتختلف ولكن يحويها كلها ذلك المثل الشعبي الذي تقولوه عامة المصريين وهو : (الجعان يحلم بسوق العيش) أما هو فلم تكن الهفوة ولم يكن الحلم خافيين عليه فكثيراً ما يحدثها فينظر إليها أو نحوها ودون أن يدري ورغم عنه يشعر أن لسانه سيفلت منه بلفظة إليها حتى يكاد أن يزيد في حديثه فيقول لها أو يهمس إليها : يا حبيبتي ولكنه يحتاط فيقضم اللفظة حتى لا تسمعها وما هي أن تسأله شيئاً حتى يبتسم لسؤالها في شيء من الخجل يوشك أن يضع يا حبيبتي مع نعم ولكنه يتماسك ويقتضب اللفظة حتى لاتفهم ، بل كلما حياها وحيته يخشى فيحجم عن أن يقول لها تلك اللفظة التي تروقه والتي يتمنى ولو في باطنه أن تسمعها منه ومع كل ذلك في حديثه إليها وحديثها إليه وفي سؤالها وتحيته وتحيتها يتخيل بهل يهمس بينه وبين نفسه بما يفصح به عن عشقه وأشتياقه إليها فكأنما هو يناديها فلعلها – ولو لم ترغب – تعرف . أما الحلم فما أكثر ما يراها في أحلامه فما أن يدنو من مخدعه – وهي لا تغيب عن خياله ولا عن باله -ويغفو إلى نومه حتى يحلم بها تلتذ هي برغبتها فيه ويشغف هو برغبته فيها . وإن كان فرويد يقول في نظريته هذه أما الهفوة والحلم والمرض النفسي تحقيق للرغبة بأنماط مقنعة وحل توفيقي بين الرغبة ونقيضها فقد نسي شيئاً أو لم يلح على باله وهو كالهفوة والحلم والمرض النفسي فمثلهم هو الشعر . فالشعر مثلهم ولاسيما في مضمونه فهو تحقيق للرغبة وحل بين الرغبة ونقيضها وخاصة شعر الغزل وخاصة كذلك إن كان الشاعر يرهقه الحرمان فهو يحقق رغبته بأسلوب مقنع هو ما ينظمه ويكتبه إلى من يعشقها وما يرغب في أن يحدثها به ويناجيها بما لا يستطيع أن يحدثها ويناجيها في وجهها وفي أن يفصح لها عن حبه وإشتياقه إليها وعما يرغبه فيها ويتمناه منها وتأثره لهيامه بما بها من جمال وعليها من فتنة فالشعر حينذاك يكون حل توفيقي بين اللقاء والهجر ، بين الود والصد ، بين الأمل واليأس وبين الأشتياق والحرمان ثم بين الصمت والبوح أو بين الكتمان والإفصاح .
البقية في العدد القادم .