بقلم: شريف رفعت
شعور غامر بالرضا يحتويها، سعيدة هي و تدرك و تقدر مدى سعادتها. تقود سيارتها متجهة لعملها، بهدوء و باستمتاع تطوف بمخيلتها على مقومات حياتها، جميلة هي، سنوات عمرها الأربعون لا تبدو عليها، صحتها جيدة، حالتها المادية أكثر من جيدة، زوجها رجل الأعمال الناجح الوسيم يحبها و يحترمها، أولادها الثلاثة غاية في الجمال و الأدب و التفوق الدراسي، ناجحة هي مهنيا فهي من أمهر و أشهر الأطباء النفسيين في المدينة. تقيم في أحد المدن الجديدة حول القاهرة، واحدة من هذه المجتمعات المغلقة المُسَوَرَة. مكتبها غير بعيد عن سكنها و بذلك تتجنب مشاكل التنقل و زحام الطرقات و التأخير السخيف.
تفكر في تغيير سيارتها باخرى أحدث و أفخم و بالتالي أغلى، سيارتها الحالية معقولة و في حالة جيدة لا تسبب لها أي مشاكل، لكنها تؤمن بأن المقتنيات المادية ـ مثل السيارة ـ هي علامة على نجاح الإنسان، مقياس لمستواه المادي و الاجتماعي، لا عيب في ذلك، تخيلت نفسها تقود سيارة سبور مكشوفة بسرعة و الهواء يداعب شعرها الطويل الجميل. البعض قد يعتبر أفكارها هذه مبالغة في المادية و المظهرية، لكنها لا تهتم بأراء الغير، هي صريحة مع نفسها و تسمي الأشياء بمسمياتها.
تفكر أيضا في أداء بعض الأعمال التطوعية، أليس ذلك دليلا على حسها الإنساني المرهف؟ هناك ملجأ للسيدات ذوات المشاكل الأسرية ستعرض عليهم أن تزورهم ساعة كل إسبوع تساعد فيها النزيلات و تناقش معهن مشاكلهن. سيفيدها هذا أيضا مهنيا حيث سيكون إضافة جديدة في سجل سيرتها الذاتية التي قد تحتاج له في مشوار طموحها المهني. ذكرها هذا بحماسها للأعمال التطوعية أثناء دراستها في كلية الطب، تذكرت مشاركتها في الحملات الصحية التي كانت تزور العشوائيات و القرى الفقيرة لمساعدة المعدمين.
تصل لمكتبها، يوم عملها عادي. بطيء بعض الشيء. قد تستطيع الانصراف مبكرا حيث آخر ساعة في جدول زوارها خالية.
يجلس هو في حجرة الانتظار الملحقة بمكتبها، لجأ لها لشهرتها كواحدة من أشهر من يمارسون الطب النفسي في المدينة، عندما حان دوره دخل مكتبها، كان آخر الحالات. هناك جو من الراحة و الإسترخاء يبعثه المكان. صافحها، تبادلا بعض العبارات الروتينية. قيدت في الملف الذي فتحته له معلوماته التقليدية، قادته إلى أريكة مريحة استلقى عليها، جلست على مقعد بجواره معها دفتر لكتابة ملاحظاتها. سألته عن سبب الزيارة.
بدأ: تبدو مشكلتي غريبة، أحيانا أشعر أنها سخيفة، لا أدري و لا أتذكر متى بدأت معاناتي، مشكلتي باختصار هي عدم مقدرتي على التفريق أو التمييز بين العام و الشخصي، هذه المعاناة تكاد تدفعني للجنون، في الواقع هي لا تكاد و لكن أحيانا أشعر أنها دفعتني فعلا للجنون، كيف حدث ذلك؟ كيف يحدث لإنسان مثلي متعلم مثقف ناضج متقدم في السن له تجارب حياتية ثرية عديدة أن يدع الشأن العام يحتوي حياته الخاصة تماما، أيرجع ذلك إلى مدى مأساوية الشأن العام الذي يحيط بنا، أم هو الفراغ الذي أعيشه بعد تقاعدي؟ أم هو تقدمي في السن و الذي أضعف مناعتي المعنوية؟ أم هو كل هذه العوامل مجتمعة؟ لا شك أن وسائل الاتصال و التواصل الاجتماعي المهيمنة لها دخل، فواقعنا المأساوي الأليم أراه أينما شاهدت التلفاز أو فتحت الإنترنت، مؤامرات على الشعوب، مذابح، فساد، تعصب، فهم خاطئ للدين. أرى ذلك في كل لحظة. حتى في الأوقات التي لا أشاهد فيها التلفاز و لا أتعامل مع الإنترنت شبح هذا الواقع يطاردني. حاولت مقاطعة مصادر الأخبار لكني لا أستطيع، أرجع لها مثل المدمن، أعلم أن هذا مثل شخص يستعذب جلد النفس، لكن هذا هو واقعي. أبسط الأشياء التي إعتدت في الماضي أن أستمتع بها مثل قراءة كتاب أو التمشية في الشارع بمفردي أو الجلوس في حديقة عامة أتأمل الطبيعة أو جلسة عائلية مع زوجتي و الأولاد و الأحفاد كل هذه الأشياء حرمت من الاستمتاع بها فالشأن العربي العام المأساوي الأليم دائما حاضر بقوة، دائما فارض نفسه على واقعي على حياتي. حاولت أن أقاوم هذه الظاهرة المدمرة بأن أركز على التفكير في أفكار إيجابية، حاولت أيضا اللجوء إلى الدين، لكن كل هذا فشل و استمر الشأن العام المأساوي يخيم على حياتي باستمرار و تصميم.
أخذ يضرب لها الأمثلة على معاناته. هي تسجل بعض الملاحظات. وجهها لا يبدو عليه أي إنفعال، تركته يتكلم و لم تقاطعه.
في النهاية قال لها: لا أدري إذا كانت هذه المعاناة دليلا على رقة مشاعري أم على خيبتي، في الواقع لا تهمني الإجابة، ما يهمني هو التخلص من هذه المعاناة، أسوأ ما حدث أن ليلة الأمس أثناء مضاجعتي لزوجتي كان الشأن العام العفن المجرم يسيطر على تفكيري، تخيلي هذا. الموضوع زاد عن حده لا أستطيع تحمله، أكره أن أقول هذا فأنا رجل مسلم و أعلم حرمة ما سأقوله، لكن سيدتي بدأت أفكر في الانتحار للهروب مما أنا فيه.
أخَذَت نفسا عميقا ثم قالت له:
ـ إنس موضوع الانتحار، عموما من يقدمون على الانتحار لا يهددون به لكنهم يقدمون عليه دون تهديد.
كانت لهجتها غريبة عليها هي نفسها، بدت كأنها مدرسة تؤنب تلميذا على سوء سلوكه. إستمرت في الحديث بطريقة باردة جافة:
ـ سأكتب لك دواء ضد الإكتئاب، أنصحك بمزاولة الرياضة. و أن تشغل نفسك بأي عمل مفيد حتى لو عمل تطوعي.
لم يقتنع تماما بكلامها قال لها باعتراض حرص على أن يبقى في حدود اللياقة:
ـ لقد حاولت كثيرا أن أشغل نفسي لكن محاولاتي باءت بالفشل. ثم ما تأثير الدواء؟ حيث أعتقد أن حالتي ليست حالة إكتئاب عادية.
ردت بحزم مهني:
ـ خذ الدواء و اتبع نصائحي. بعد إسبوعين إذا إستمرت الحالة كما هي يمكنني أن أراك مرّة أخرى.
رد عليها:
ـ حالتي صعبة يا دكتورة، أرجو ألا يصيبك ما أعاني منه.
لا تدري لماذا قالها، هل ليؤكد عدم إقتناعه بنتيجة الجلسة؟
أنهت مقابلتها معه. كانت هذه الحالة ـ و التي أخذت وقتا أكثر من المعتاد ـ الأخيرة في يوم عملها، استقلت سيارتها عائدة لمنزلها. في العادة لا تفكر في أي من الحالات خارج مكتبها، لكنها شذت عن هذه القاعدة و أخذت تراجع نفسها، تعلم أن ما قالته له بخصوص أن من يقدمون على الانتحار لا يتحدثون عنه ليس سليما تماما، تدرك كطبيبة نفسية أن من في حالة نفسية سيئة لا يمكنهم الفرار منها قد يلجئون للإنتحار، و أن الفكرة قد تستحوذ عليهم بطريقة مرضية بحيث يصبح الانتحار هو الطريقة الوحيدة للنجاة، يصبح الانتحار بالنسبة لهم إنجازا يتشوقون لمواجهته، لكنها قالت له ما قالت كي تبعد عنه هذه الفكرة حتى لا تستحوذ على حياته و تنهيها بطريقة مأساوية. أيضا هي عاملت حالته كحالة إكتئاب عادية و قد كان محقا إلى حد ما عندما ذكر أنها ليست كذلك، تمنت أن يفلح الدواء التقليدي الذي كتبته له في علاجه. ثم حولت تفكيرها إلى أشياء أخرى تبعث على السعادة و الرضى.
في اليوم التالي و على غير عادتها تابعت نشرة الأخبار في التلفاز، و كما لو كانت مـُـنـَـوَمة تصفحت الإنترنت كي تقرأ عن واقع عالمها العربي. لماذا فعلت ذلك؟ لا تدري. هل للتأكد أن مريض الأمس كان على حق في تصويره للواقع العام؟ كان هذا بداية لأمر غريب عجيب، فخلال عدة أيام أصبحت هي الأخرى مدمنة على تتبع أخبار عالمنا العربي المأساوية، كما لو كانت مشكلة مريضها معدية، فمثله أيضا بدأ العام المأساوي الكاسح المجرم يطغي على خاصِها الجميل الغني الأناني المـُـغـَـيـَـب. أصبحت مقارنة حياتها اليومية بالواقع العربي المؤلم عملية مجنونة جهنمية، تنظر إلى الطعام الوفير على مائدتها و تتخيل جوع و حرمان الملايين في المناطق المنكوبة، تراقب أولادها في حمام سباحة النادي أصحاء فرحين مرحين في جو نظيف أنيق و تقارنهم بأطفال هاربين من جحيم بلادهم عبر المتوسط في زوارق كارثية ينتهي الأمر بالكثير منهم إلى الموت غرقا، ترقد في فراشها الوثير الدافيء بجوار زوجها المستغرق في نوم عميق فتفكر في آلاف النساء الآتي فقدن أزواجهن نتيجة الحروب و المجازر و الكوارث. تستمر المعاناة، يغذيها ما تشاهده في التلفاز، كم مهول من المآسي، أشدها تأثيرا فيها ملامح الرعب على وجوه أطفال صغار يحاولون الهرب من الموت و الدمار، و نظرات الألم و الفجيعة في أعين أمهات يحاولن حماية فلذات أكبادهن.
سألت نفسها: كيف تأثرت بالمشكلة النفسية لمريضي لهذه الدرجة؟ هل وصلت بها اللامهنية هذا الحد؟ هل كانت في حاجة لمريضها هذا كي يذكرها بأنها كانت معزولة تماما عن الشأن العام بمآسيه و كوارثه؟ أم كانت تدرك تماما مدى قسوة واقعنا العربي لكنها أمعنت في الانغماس في حياتها الخاصة المريحة كوسيلة لطمس هذا الواقع، لدفنه و تجاهله، فهل الاهتمام المفاجيء الآن هو تكفير من عقلها الباطن على ذلك التجاهل المتعمد؟ و هل معاناتها الحالية دليلا على رقة مشاعرها أم على خيبتها، سلوكها بهذا الخصوص و الأسئلة التي تطرحها على نفسها غير مهنية بالمرة، لكنها واقع، واقع يجب أن تتعامل معه فهل تستطيع؟
تساءلت: ما الفرق بيني و بين مريضي ذاك اللعين؟ رأت أن فرص خلاصها من الأفكار السوداوية هذ مفروض أن تكون أفضل من فرصه، فهي أصغر سنا و بالتبعية أقوى إرادة، هي تعمل فليس عندها فراغ يتيح لأفكار مريضة أن تملأ رأسها، ثم أنها طبيبة نفسية تستطيع أو المفروض أن تستطيع أن تجد حلا لهذه المشكلة. لقد نصحته بالعمل التطوعي، فهل هذا علاج ناجح لحالتها يخرجها عن روتينها المعتاد و يجعلها تنغمس كلية في جو آخر مختلف و مـُتَطَلب؟ تسمع عن منظمة “أطباء بدون حدود” التي تقدم خدماتها الصحية المجانية في الأماكن المنكوبة من العالم، يا لها من فكرة إنسانية نبيلة، هل تستطيع أن تنضم لهم؟ هل بعد خمسة عشر سنة من الطب النفسي تستطيع أن تقدم هناك على أرض الواقع أرض المأساة أي عمل طبي مفيد؟ هل هناك حاجة للطب النفسي هناك؟ أم أنه طب المرفهين المدللين مثلها؟ ثم و هذا هو الأهم هل عندها الشجاعة لترك حياتها المريحة ـ في الواقع المريحة جدا ـ و ترك مكتبها و أسرتها و الذهاب؟
في الأيام القليلة التالية زادت المشكلة حدة، أصبح الشعور بالقنوط و الحزن و اليأس بسبب الشأن العام يسيطر عليها حتى و هي مع مرضاها تسمع مشاكلهم و تعطي لهم الحلول. أصبحت حياتها مأساة بكل معنى الكلمة؟ طبيبة نفسية تعاني من مشكلة نفسية غلابة صعبة واضح أنها أصبحت مزمنة عليها أن تعالج مرضي نفسيين تعتقد أن أغلبهم حالتهم أفضل من حالتها.
بعد إنتهاء يوم عمل مزدحم و إنصراف سكرتيرتها جلست إلى مكتبها. لحظة تأمل و هدنة مع أفكارها. بهدوء أخرجت إحدى عبوات أقراص ضد الإكتئاب مما يوزعها مندوبي مبيعات الأدوية على الأطباء. أفرغت الزجاجة أمامها على سطح مكتبها، أخذت تنظر للأقراص بتمعن، هناك شيئ جميل بخصوص هذه الأقراص، لونها، لمعانها، شكلها المتجانس،لماذا تراعي شركات الأدوية الناحية الجمالية في منتجاتها اللعينة؟ أخذت بهدوء ترص الأقراص أمامها على المكتب في أشكال هندسية، شعرت و هي شبه مغيبة براحة نفسية من هذا العمل البسيط.
مريضها حالته لم تتحسن، كان في نيته أن يتصل بها كما طلبت منه كي يرتب لزيارة أخرى، لكنه قرأ في الجريدة خبر إنتحارها في مكتبها.