بقلم: شريف رفعت
أعتقد أني كنت أقرب أبناء أبي إليه، لم يصارحني بهذا لكنه كان دائما يقول لي:
ـ إنتِ بنت أبوكي
كنت البنت الوحيدة، أصغر أفراد الأسرة، و أكثر أولاده قربا لطريقة تفكيره. أبي كان يفتخر بأن أولاده كلهم جامعيون. أخي الكبير جلال خريج كلية التجارة و أكثرنا عملية في التفكير بطريقة تغيظ، يهتم بجمع ثروة كبيرة، و رغم أنه أكثرنا ثراءً إلا أن ثروته لا تتناسب مع عمليته في التفكير و مع أفكاره الرأسمالية. أخي الأوسط رفيق طبيب، أطلقت عليه لقب «ملك الحلول الوسط» فهو دائم المواءمة بين المواقف و يحاول إسعاد الجميع. أنا خريجة كلية الهندسة قسم اتصالات، أبي كان يود أن أتخصص كمهندسة ميكانيكية حيث أن هذا أقرب لعمله فهو صاحب ورشة خراطة، قد يكون فخره بشهادات أولاده مرجعه أنه هو نفسه حاصل فقط على شهادة ثانوية صناعية.
ورشة الخراطة التي إمتلكها أبي كانت غير بعيدة عن منزلنا. الورشة كانت عمله و حياته و مصدر رزقه، عاشت أسرتنا عيشة معقولة كطبقة متوسطة من دخل الورشة، كانت الورشة مبعث فخر أبي، و أنا صغيرة كانت الورشة تبدو لي شيئً كبيرا ساحرا، عندما كبرت و التحقت بكلية الهندسة أدركت مدى تواضعها. في أول عطلاتي الصيفية في الكلية قررت قضاء العطلة أتمرن في ورشة أبي، كان قراري مبعث فخر له و إن كان أخواي قد إعتبراه مصدر للسخرية و الفكاهة حيث أطلقا علَيّ لقب «الأوسطى».
كان أهم ما في الورشة المخرطة، آلة قطع و تشغيل المعادن. في أول يوم لي بالورشة دهشت و أعجبت من إفتنان أبي بالمخرطة، شرح لي أنها صناعة ألماني و أنها رغم قِدمها في حالة جيدة جدا حيث يعتني بها و يجري الصيانة الدورية عليها بنفسه. أراني كتاب إرشادات قديم متهالك يشرح خطوات الصيانة المطلوبة و سلسلة من الاختبارات للتأكد من أن جميع وظائف المخرطة تتم كما المفروض. أراني بعض الرسومات الهندسية المستخدمة لإنتاج المشغولات المطلوبة و شرح لي أن كثير من الخراطين لا يستطيعون فهم الرسومات، و يمكنهم العمل فقط إذا كان عندهم عينة من المشغولات المطلوبة، أما هو فبسبب دبلوم الصنايع الذي معه يمكنه قراءة الرسومات بسهولة و العمل منها. أراني كيف يثبت قطعة من الصلب على المخرطة ثم يختار سكينة القطع المناسبة للشغلة المطلوبة و لنوع المعدن، أدار المخرطة فبدأت السكينة تقطع المعدن و أنا أراقبها مشدوهة، أصدر قطع السكينة للصلب صوتا لا أدري لماذا وصفه أبي بأنه صوتا جميلا. ينتج عن عملية القطع شريط رفيع من الصلب المزال من الخامة، بسبب حرارة الاحتكاك العالية بين السكينة و المعدن شريط الصلب أو «الرايش» كما يسميه أبي يبدو كشريط من اللهب يختفي لهبه بعد ثوان و يصبح لونه رمادي يميل للزرقة بسبب إحتراقه.
أبي كل حواسه مع عملية القطع ينظر إلى السكينة تشكل خامة الصلب مشدوها كأنه يراها لأول مرة، يستمع إلى حفيف الاحتكاك بين السكينة و المعدن بوَلَهْ، هناك سائل تبريد يصب من خرطوم على مكان القطع كي يساعد على تبريد كل من الخامة و أداة القطع، يُصْدِر ذلك السائل بسبب الحرارة الشديدة سحابة صغيرة من الدخان يستنشقها أبي كأنه مدمن، يلمس بأصابعه الجزء من الخامة الذي تم تشكيله ليطمأن على درجة نعومة السطح، أعتقد أن أبي وصل إلى ما يسمى حالة «النيرڨانا» أو السعادة المطلقة لمجرد أنه يعمل و ينتج على المخرطة.
تمر السنون، أتخرج من كليتي، أعمل كمهندسة، أتزوج، تموت أمي بعد مرض قصير، يقربني موتها أكثر من أبي، أحاول أن أوائم بين قضاء ساعات أطول معه و بين واجباتي كزوجة و أم. عدا وقت وفاة أمي لا أتذكر أن أبي تخلف عن الذهاب للورشة بسبب المرض أو لأي سبب آخر حتى قامت ثورة يناير، من يومها الأول أغلق أبي الورشة و ذهب للميدان و أمضى أياما و ليالي هناك مع الثوار، دفعني هذا إلى الانضمام له خوفا عليه لكن أيضا إيمانا بالقضية. بعدها بسنتين تقريبا في يونية عندما خرجت الجموع مرة أخرى إلى الميدان إنضم لها أبي مرة أخرى، في المرتين كان أبي شديد الحماس و شديد الاقتناع بما يفعله، و هو في الميدان إتصل به أخي جلال هاتفيا و حاول أن يقنعه بالعودة للمنزل فأعطاه أبي درسا في الوطنية و الإيجابية. إمتد النقاش بينهما بعد ذلك في جلسات العائلة، كان منطق جلال أن أبي كبير في السن و صحته لا تحتمل المجهود و البقاء في الميدان لليالي، رد أبي متهكما أنه شارك حتى يكون هناك على الأقل رجلا واحدا من العائلة في الميدان تلميحا لعدم مشاركة جلال، رد أخي بأن فردا واحدا لن يضيف أو ينقص من نتيجة ما سيحدث، تدخل رفيق بأسلوبه الدوبلوماسي و قال أنهما إتفقا على ألا يتفقا و إن كان هو يقدر وطنية الأب كما يقدر خوف جلال عليه.
بعد وفاة والدتي عرضت عل أبي أن يقيم معي و مع أسرتي بالذات أن منزلنا غير بعيد عن الورشة فيمكنه السير إليها لكنه رفض، عندما أصبح على مشارف السبعين ضعفت صحته بالتدريج، في أحد الأيام أصابته سكتة دماغية تركته بشلل في ذراعه الأيسر و نصف وجهه مما أثر على مقدرته على الكلام، كان يستطيع الحديث لكن بصعوبة، أعتقد أن أسوأ ما تركته الذبحة في أبي كان تدهور حالته النفسية، بسبب مرضه أصبحت حركته محدودة و اعتكف في المنزل، رغم ذلك صمم عل البقاء في منزله بمفرده، يمضي أغلب أوقاته أمام التلفاز أو يقرأ الجرائد.
في أحد الأيام فاجأني بأن قال لي أنه إشتاق إلى ورشته و بالذات إلى المخرطة، أفهمته أن حركته صعبة و قد أمر الأطباء بألا يبذل مجهودا، و أن حتى زيارته للورشة لإلقاء نظرة عليها ستمثل جهدا قد تكون عواقبه غير محمودة. صمت برهة كأنه يجمع أفكاره ثم قال ببطء محاولا التغلب على صعوبة كلامه:
ـ لا، كنت أفكر أن نحضر المخرطة هنا، في الشقة، بجواري.
فوجئت بما قال، لم أرغب في أن أظهر دهشتي و لا أن أسَفِه طلبه، قلت له بهدوء محاولة أن أضع منطقا فيما أقول:
ـ لا أعتقد أن هذا ممكنا، بسبب حالتك الصحية لن يمكنك تشغيل المخرطة، و أعتقد أن كهرباء المنزل غير مناسبة لتشغيلها.
أجاب:
ـ لا، لا أرغب في تشغيلها، فقط أريدها بجواري، سيريحني ذلك كثيرا، أعرف أن طلبي غريب لكن صدقيني إنه مهم بالنسبة لي.
ـ دعني أفكر في هذا الموضوع.
ـ فكري لكن لا تخبري أخويكِ، إعتبريه جـِميل تفعليه لي.
فكرت، قلت لنفسي لماذا لا؟ إستعنت بشركة نقل نقلت المخرطة من الورشة إلى مسكن أبي، نظرا لوزنها الثقيل و حجمها إضطرت الشركة إلى الاستعانة برافعة و أن تدخل المخرطة من باب الشرفة. أخيرا إستقرت المخرطة في صالة المنزل. أبي قبلني و قال لي:
ـ شكرا، أنتِ دائما بنت أبوكي.
اليوم التالي كان ميعاد زيارة جلال و رفيق لأبي للإطمئنان على صحته، ذهبت قبلهم بحوالي نصف ساعة، وجدت أبي جالسا في الصالة بجوار المخرطة، يقرأ الجريدة و يحتسي كوبا من الشاي يضعها بجواره على حافة المخرطة كأن الآلة طاولة يضع عليها حاجياته، بدى سعيدا رغم مرضه. عندما حضر رفيق و جلال معا ظهرت عليهما الدهشة لوجود المخرطة في الصالة، رفيق لم يعلق لكن ـ كما توقعت ـ كان تعليق جلال سلبيا، إنفرد بي و اتهمني بالجنون لأني وافقت أبي على طلبه الغير معقول، أجبته:
ـ بالطبع نقل المخرطة شيء غير عادي و غير مألوف، لكن لو هناك إحتمال أن تتحسن معنويات أبينا بسببها، فلماذا لا.
بالطبع جلال لم يقتنع، رفيق أخبرنا قبل إنصرافه أنه سيرسل أخصائي علاج طبيعي لعلاج أبينا، غادر أخواي المنزل، قبلت أبي مودعة، و أنا في طريقي للخارج لمحته بطرف عيني يربت بيده السليمة على المخرطة، سألت نفسي هل سيتحدث معها بعد إنصرافي و ماذا سيقول لها؟
بعد عدة أسابيع و نتيجة للعلاج الطبيعي و وجود المخرطة بالقرب من أبي تحسنت صحته، بالتدريج إستعاد قدرته على تحريك ذراعه الأيسر، و اختفى تقريبا الشلل من نصف وجهه فأصبح قادرا على الحديث بطريقة أفضل و المهم كونه قادرا على الابتسام، إصطحبته عدة مرات للسير ببطأ حول المنزل لعدة دقائق. الإطباء كانوا منبهرين من تحسن حالته و إن كانوا نصحوه بالمداومة على تناول الدواء.
بعد عدة أيام فاجأني أبي بطلبه العودة إلى الورشة و عودة المخرطة معه، وعدني بأن يبدأ العمل ساعات محدودة ثم يزيدها حسب إمكانياته الصحية. لأني ضعيفة أمام طلباته إستجبت له، عادت المخرطة للورشة و عاد معها أبي. عندما زرته بعدها في الورشة كان واقفا أمام المخرطة يخرط بعض المشغولات البسيطة، قال لي أنه يتوقع أعمال مهمة من زبائنه الذين أخبرهم بعودة الورشة للعمل.
سحب مقعدين وضعهما في الخارج أمام باب الورشة و طلب مني الجلوس، توقعت أنه بصدد طلب آخر، فعلا، قال لي أن عنده فكرة يريد رأيي فيها و مساعدتي على تنفيذها، ذلك أنه ينوي التطوع لتدريب عدد من الشباب على مهنة الخراطة بمعرفته في ورشته، أضاف أن هناك جانب نظري في هذا التدريب إذا كنت أود و أستطيع القيام به.
سألته: لماذا؟
أجاب ببساطة:
ـ أعلمهم صنعة محترمة تساعدهم على العثور عل عمل محترم.
سألته:
ـ ألا توجد مدارس صناعية لهذا الغرض؟
ـ المدارس الصناعية غير كافية، السوق يحتاج لأعداد كبيرة من الخراطين، ثم أن مستوى التعليم في هذه المدارس في الوقت الحالي مستوى بائس.
وجدت الفكرة جريئة مثل أغلب أفكار أبي، قررت مساعدته، وضعت له إعلان في الجرائد، تقدم العشرات، قمنا أنا و هو بامتحانهم و قبول ستة منهم بينهم فتاة. إضطرني هذا المشروع للرجوع لكتب تشغيل المعادن و تكنولوجيا الوِرَش كي أضع منهاجا نظريا يتمشى مع التدريب العملي الذي سيتولاه أبي على المخرطة.
إجتمعت أنا و أخواي في منزل رفيق، بالطبع كان موضوع الحديث هو أبي و حالته الصحية. رفيق قال أنه مر بالورشة اليوم السابق و أمضى بعض الوقت مع أبي و أنه لم يراه منذ فترة بهذه الحالة الطيبة سواء صحيا أو معنويا. قلت لهما عن مشروعه لتدريب الشباب على الخراطة، جلال تحمس للفكرة، قال أنها جيدة و أنه يمكن التوسع فيها و التركيز عليها لكن يجب أن نلعبها بمهارة، عرض أن يساعدنا في تطوير الفكرة لتصبح عدة مدارس فنية خاصة، قال أنه من المهم جدا أن نحدد رسوم الإلتحاق بهذا التدريب بذكاء بحيث يكون في متناول عددا كافيا ممن يودون الالتحاق به و في نفس الوقت يضمن ربحا جيدا لنا. قلت له مبتسمة أنه لا توجد رسوم للتدريب و أن الوالد يفعلها كعمل تطوعي مجاني. ذهل جلال و سألني:
ـ و أنتِ وافقتِ
أجبت:
ـ نعم، هذه إرادة أبي، أرى أنها فكرة نبيلة، نعم وافقت.
ـ كما وافقتِ من قبل على نقل المخرطة للشقة و على عودة أبوكي للعمل بالورشة، هذه تصرفات غير منطقية.
ـ قد تكون عدم منطقيتها هي سبب سعادة أبينا.
ـ بصراحة، تعلق أبوكي بالورشة و بالمخرطة ظاهرة مرضية.
ـ تعلقك أنت بالماديات هو الظاهرة المرضية.
تدخل رفيق قائلا:
ـ هذا نقاش لا نهاية له، إفهم يا جلال المخرطة بالنسبة لأبيك عشق و رومانسية و خيال، دعه يتمتع بها و بهم.
رددت:
ـ لا، المخرطة بالنسبة لأبينا هي واقع، هي حياة، هي إنتاج و قوة، إنها ليست شيئا حالما أو رومانسيا.
ثم إلتفت لجلال و قلت له:
ـ ستكون أنت أيضا أسعد حالا لو وجدت لنفسك مخرطة.