بقلم: شريف رفعت
سمير لطفي كان زميلا لي في سنتي الأولى بكلية الهندسة، لم تصل علاقتنا لمرحلة الصداقة، و نحن في سنتنا الرابعة بالكلية شاهد طالبة في مدرسة البنات الخاصة للغات المجاورة لكليتنا، أعجب بها و بدأ في مغازلتها بطريقة صبيانية تبعث على الابتسام، إستجابت الفتاة لغزله و أصبحا يلتقيان بعد مواعيد مدرستها، قد تكون إستجابتها بسبب وسامته، فهو طويل يميل للنحافة شعره ناعم غزير يسقط على جبهته، ملامح وجهه وسيمة، وقتها أيضا كان لطلبة الهندسة سحر خاص عند الفتيات فقد كان هناك إعتقاد ـ صواب لحد ما ـ أن مستقبلهم مضمون فهم يصلحون للزواج.
في نهاية العام الدراسي تنهي الفتاة دراستها الثانوية و تلتحق بكلية الآداب، في العام الذي يليه تتخرج دفعتنا من الكلية، البعض و أنا منهم نلتحق بالعمل، البعض الآخر يستدعى لأداء الخدمة العسكرية و سمير واحد منهم.
بعد حوالي سنتين من تخرجي و البلد في خضم ما سمي بحرب الاستنزاف أجلس في حديقة النادي الذي أنا عضو فيه، طاولتي دائما في ركن الحديقة بحيث أرى كل من فيها. أسلي نفسي بمشاهدة رواد النادي، أرى سمير قادما و في ذراعه فتاته، يرتدي بذلته الرسمية كضابط برتبة نقيب بينما فتاته و التي اعتدت أن أراها في زيها المدرسي من قبل تبدو جميلة و أنيقة. يشاهدني يتقدم نحوي و يقدم لي الفتاة على أنها أماني خطيبته، نتبادل حديثا قصيرا، يسألني عن عملي، و أسأله عن أخبار الجبهة، يخبرني أنه في عطلة ۷٢ ساعة يعود بعدها للجبهة، سألته إذا كان عضوا في النادي يجيب مبتسما انه أصبح عضوا أخيرا، فالجيش من ميزاته أنه يسمح للضباط بالالتحاق بأي نادي. أهنئه على خطوبته و أتمنى له السلامة في فترة تجنيده. يستأذن و يجلسان غير بعيد عن طاولتي. أنشغل في قراءة كتاب معي، من وقت لآخر أنظر لهما، منظرهما جميل، هو بشبابه و وسامته و بذلته الرسمية و ابتسامة جذابة جريئة على محياه، هي حسناء رقيقة خجولة و إبتسامة حالمة تزين وجهها الجميل و تشع من عيناها الواسعتان الخضراوان، يتحدثان بصوت هامس، تكثر من الضحك، أكيد سمير يقوم بدور جيد في إظهار خفة دمه. أثناء الحديث تتشابك أيديهما و تتعانق نظاراتهما، كانا رائعين، مثالا على الشباب و الجمال و الحب.
بعد فترة تندلع حرب أكتوبر، تتوالى الأحداث، أسمع من الرفاق أن إثنين من زملائنا قد إستشهدا، و أن سمير قد أصيب و دخل المستشفى العسكري. لم أعرف طبيعة إصابته حتى رأيته في عصر أحد الأيام و أنا جالس في حديقة النادي يطل على الحديقة كأنه يبحث عن مكان مناسب يجلس فيه، عندما رآني توجه إلى طاولتي، سلمت عليه لكني رأيت أن السلام باليد غير كافي فاحتضنته و قبلته، تعمدت ذلك فقد كانت هناك إصابة في جانب وجهه الأيسر شوهته تماما. رغم أنه كان يرتدي نظارة غامقة إلا أني أدركت أنه فقد عينه اليسري و جزأ من أذنه و ما بينهما يبدو كجلد مدبوغ غائر بعض الشيء يمتد إلى منتصف الخد. إبتسمت له، طلبت منه الجلوس ، بذلت جهدا حتى لا أنظر إلى مكان التشوه. تبادلت معه بعض عبارات المجاملة، جال بخاطري موضوع خطيبته، نظرت إلى يده فوجدت الدبلة في إصبع يده اليسرى معنى ذلك أنه تزوج، رغم أن علاقتي به كانت مجرد زمالة فقد وجدته راغبا في الحديث، من نفسه قال لي:
ـ تزوجت من ثلاث أسابيع.
رددت عليه مهنئا:
ـ ألف مبروك.
إستمر في الحديث كأنه لم يسمعني:
ـ لم يكن زواج بطريقة تقليدية، طبعا التشوه الذي في وجهي كان له علاقة بطريقة إتمام الزواج. دعني أبدأ من البداية، عندما أصبت في وجهي و أخذت للمستشفى حضرت أماني لزيارتي، كانت زياراتها الشيء الوحيد الجميل في هذه الأوقات العصيبة فقد كانت معنوياتي في الحضيض، كنت أتمنى أن تكون إصابتي في أي مكان إلا وجهي، الأطباء كتبوا لي مضاد للإكتئاب فقد كاد الاكتئاب فعلا يقتلني. عندما أزالوا الضمادات عن وجهي لم أصدق مدى التشوه الذي حدث، حاول الأطباء طمأنتي بأنه يمكن إجراء عمليات تجميل و استخدام عين صناعية تملأ الثقب القبيح الذي كان عيني، كان أحدهم صريحا قال لي أن عمليات التجميل لن ترجع وجهي كما كان و لكنها ستصلح الوضع بعض الشيء. هذا اليوم عندما حضرت أماني لم تصدق هي الأخرى مدى التشوه، كانت ساهمة صامتة أغلب الوقت، طلبت منها أن تجلس في الناحية الأخرى من الفراش الناحية المواجهة لنصف وجهي السليم حتى لا أؤذي مشاعرها بتشوهي. إنقطعت بعد ذلك عن زيارتي مما زاد من إكتئابي. عندما خرجت من المستشفى و ذهبت لزيارتهم فتح لي والدها الباب، سلم علي ثم أخبرني بطريقة حاول أن يجعلها رقيقة أنه و ابنته يودان إنهاء الخطوبة نتيجة لما حدث. بالطبع صدمت، حاولت أن أفكر بسرعة و بطريقة عقلانية، كان التفكير مستحيل في هذا الموقف ، قلت له أني سأزوره في الغد في نفس الميعاد لنناقش الموضوع و طلبت أن تكون أماني حاضرة، رد بعدم إرتياح أنه لا فائدة من مناقشة الموضوع و أن قرارهم نهائي و إنه يقدر مدى ألمي لهذه التطورات، لكني صممت، قلت له أني سأستجيب لما يقررونه و أني لا أستطيع إجبارهم على أي شيء لكني أود فقط فرصة للحديث و رجوته أن يعيد التفكير هو و أماني في هذا الموضوع حتى ميعاد الغد، تمتم ببعض الكلمات عن إرادة الله فانصرفت.
في اليوم التالي ذهبت في نفس الميعاد أجلسني أبوها في حجرة الاستقبال و هو مشدود الأعصاب لكن هناك ملامح تصميم على وجهه. سألت عن أماني فنادى عليها أبوها و هو متضرر، دخلت و معها أخاها، سلمت عليهما و أنا أبتسم ابتسامة مجاملة . بدأت الحديث فسألتهم عن رأيهم النهائي، بدأ الأب في بعض المقدمات، رددت بشيء من الحدة طالبا أن ينسى المقدمات و يعطيني رأيه النهائي، رد:
ـ أرى أنه في مصلحة الجميع أن ننهي هذه الخطبة و يذهب كل منكما في طريقه،
سألت أماني عن رأيها، ردت بأن الموضوع مؤلم جدا بالنسبة لها لكنها توافق على إنهاء الخطبة. كان أخوها جالسا متحفزا يبحث عن دور له في النقاش كي يثبت وجوده. بهدوء أخرجت من جيب سترتي المسدس الذي أعطاه لي الجيش، عرضته عليهم و قلت بهدوء و ببطأ.
ـ الجيش لم يأخذ بعد مسدس الخدمة، ما زال معي، ببساطة و وضوح أنا لا أوافق على إنهاء هذه الخطبة، أود أن أعقد القران الآن، إذا لم توافقا سأطلق النار عليكما ثم أنتحر، أو قد أسلم نفسي للشرطة و احاكم و أنا متأكد أن نتيجة لظروف الحادث سيكون الجرائد و الناس و المحكمة متعاطفين معي، لا أدري بعد لكن المهم أني سأطلق النار عليكما أولا.
الذعر كان مرسوم على وجوههم، أنا متأكد أن أمها كانت خارج الغرفة تتصنت على كل مانقول أكيد كانت هي الأخرى مرعوبة. إلتفت إلى أخيها و طلبت منه أن يذهب في الحال و يحضر المأذون، حذرته إذا حاول الاتصال بالشرطة فسيكون في ذلك نهاية أبيه و أخته.
إنسحب الأخ من الحجرة مسرعا، حاول الأب مرة أخرى أن يثنيني عما أفعل، قال أن الزواج لن يكون مقبولا شرعا لأن واحدة من أركان الزواج رضاء الطرفين و هذا غير متوفر في هذه الحالة، قلت له أن إبنته من الأفضل أن تكون راضية و إلا فإن علاقتنا ستكون حرام و هذا ما لا أقبله، ثم موجها الحديث لها:
ـ سمعتِ ماذا يقول الوالد؟ عنده حق.
نظرت لها بتمعن، تبدو مضطربة و حزينة، أهذه من أحببت طوال السنوات الماضية، تمنيت أن تنهار باكية و تخبرني أن أباها من دفعها لاتخاذ هذا الموقف و أنها مازالت تحبني و تود الارتباط بي.
ران على الحجرة السكون، أخذت أنظر إلى مسدسي و أنقله من يد لأخرى كأني أذكرهما بوجوده،
إندفعت الأم داخل الحجرة منفعلة صائحة:
ـ يابني حرام عليك الزواج ليس بالإجبار، إنت إذهب في طريقك و نحن في طريقنا.
كان الموقف عجيب و مجنون، أبدو هادئا و متحكما في أعصابي و في مجريات الأمور فأنا من يملي شروطه بسبب المسدس، لكن في أعماقي كنت منهارا محطما، لا أدري إذا كان ما أفعله صوابا أم خطأ، و لا أدري إذا كنت فعلا أملك الشجاعة لإطلاق النار عليهما إذا رفضا طلبي.
رددت على الأم لكن كلامي كان موجها لهم جميعا، قلت بهدوء:
ـ هذه الحرب ليس حربي أنا وحدي، إنها حرب كل المصريين، ليس من العدل أن أتحمل أنا وحدي تبعات الحرب، أنا تشوه وجهي، أنتم كأسرة عليكم أن تقبلوا تزويج إبنتكم لشخص مشوه، بذلك نكون كلنا متقاسمين في التضحية، أليس هذا عدلا؟
حضر المأذون مع الأخ، قلت لهم قبل دخوله:
ـ لا أريد تصرفات متهورة و إلا أقسم بالله سيتحول الموقف إلى مأساة.
ثم موجها حديثي لإيمان بلهجة بين الجدية و التهكم:
ـ و أنتِ يجب أن تكون في نيتك القبول، فلا أقبل أن أعيش معكِ في الحرام.
وضعت المسدس في جيب سترتي الخارجي، تمت إجراءات الزواج، طلبت من أماني أن تعد حقيبتها كي تصطحبني، قبل إنصرافنا إحتضنت أمها و أباها و أخاها و هي تبكي، تتصرف كشهيدة.و نحن في الطريق للخارج قلت لهم، بصوت عال واثق:
ـ الموضوع ليس بهذا السوء فلا داعي لتحويله لمأساة، أعدكم جميعا إني سأعمل كل ما في وسعي كي أجعلها سعيدة، تذكروا هذا الوعد، ستكون إبنتكم سعيدة رغم أنها متزوجة من رجل مشوه.
أكمل حديثه:
ـ في الأيام الأولى لم أقترب منها، رغبت في أن أعطيها الفرصة كي تتعود على وجهي المشوه إذا كان هذا مما يمكن التعود عليه.
أخذ نفس عميق كان يلهث من الانفعال، لماذا يحكي لي كل هذا رغم أني ليس صديق مقرب منه أكيد كان يحتاج لذلك كي ينفث عن نفسه. سألني: هل أنا مخطيء؟
فكرت قليلا، ثم قلت:
ـ صدقني هناك شيء رومانسي فيما فعلت، ما فعلته دليلا على حبك لها و تمسكك بها، في أعماقها قد تكون سعيدة و فخورة بما فعلت، بعد عدة سنوات قد تنظران أنتما الاثنين على هذا الموقف كما لو كان شيء مجنونا و مضحكا.
فكر سمير فيما قلت، أعتقد أنه وجد نوع من الراحة في كلامي، قال:
أنا فعلا فعلت هذا لأني أحبها، لكن كان هناك أيضا شعور بالخوف، إذا كانت من عرفتها و أحببتها لعدة سنوات ترفضني، فما فرصتي بتشوهي هذا أن أجد أخرى تقبلني.
تمنيت له صادقا حياة سعيدة، قال لي:
ـ لقد وعدتهم بأني سأفعل كل ما في وسعي كي أجعلها سعيدة و أنا فعلا مصمم على ذلك.
ودعته و انصرفنا. بالتأكيد إستراح سمير بعد كلامه معي.
تمر السنون، حوالي عشرين سنة، في أحد أيام الشتاء المشمسة أجلس في حديقة النادي في نفس مقعدي المألوف و معي جريدة أقرأها، يشعرني الجلوس في هذا المقعد و هذا الموقع بأني أشاهد العالم بحاله متمثلا في رواد هذا المكان من أعضاء النادي، يشعرني بأني حكيم الزمان، أشاهد الأطفال يكبرون، و الشباب يتحولون لكهول و الأصحاء يمرضون، يأتي للحديقة سمير لطفي و معه زوجته، يجلسون على طاولة غير بعيدة، زاد وزنه، مازال يرتدي نظارة سوداء و غطاء للرأس مما يطلق عليه “كاب” لإخفاء جزأ من الإصابة التي في الناحية اليسرى من وجهه. زوجته أماني مازالت جميلة و رقيقة لكنها تبدو حزينة، في الواقع حزينة جدا، يسألها:
ـ أكان من الضروري أن نحضر هنا كي تحدثيني؟ ألم يكن المنزل مكانا مناسبا؟
أخفِي وجهِي خلف الجريدة، اشعر أن هناك حوارا شيقا سيبدأ. ترد هي:
ـ لا، بسبب الأولاد، هنا نتكلم براحتنا، ما هذا الذي فعلته يا سمير، ببساطة لماذا؟
ـ لم أفعل شيئ حرام، الشرع يبيح لي ما فعلت.
ـ هذا منطق المعلمين، ما فعلته ليس حراما لكنه خطأ. ما هي الرسالة التي يبعثها تصرفك هذا للولد و البنت؟ معنى هذا أن البنت تقبل أن يتزوج زوجها عليها، و الولد بعد زواجه بفترة يبدأ البحث عن أخرى تقليدا لك.
ـ عندما يكبران سيكون عندهما المقدرة على التفكير و سيكونا أحرارا في اختيار ما يناسبهما. ما أود أن أأكده لكِ أن حقوقك ستكون محفوظة تبعا للشرع.
إبتسمت إبتسامة ساخرة حزينة و قالت
ـ أي حقوق، ليلة عندها و ليلة عندي؟ و لو أنت بتعتبر الشرع هو مرجعيتك في تصرفاتك فهل أتوقع أن تكون هناك ثالثة و رابعة، يكون وقتها حقي هو ليلة كل أربعة ليالي. أليس هذا شر البلية الذي يضحك؟
تمسح دمعة سالت على خدها، يقول لها في لهجة حانية:
ـ صدقيني بمضي الوقت لن يبدو الموضوع بهذا السوء الذي تتخيليه.
تضيف ببطأ كأنها تنتقي الكلمات:
ـ ثم كيف تقبل إمرأة أن تتزوج رجل مثلك متزوج.
ـ تقصدين متزوج و مُشوه.
تصمت كما لو كانت قد يأست من إجراء حوار عاقل معه، يطول الصمت.
أنصرف أنا، ألاحظ و انا أغادر المكان أن طاولتهما التي يجلسان عليها هي نفس الطاولة التي جلسا عليها عندما شاهدتهما و هما مخطوبان، عندما رأيتهما مثالا جميلا للحب و الشباب. أتذكر قول سمير لي أنه وعد أهلها عندما عقد قرانه عليها تحت تهديد مسدسه أنه سيجعلها سعيدة، أكيد عجز المأفون عن تحقيق وعده.