بقلم: بشــير القــزّي
استفقتُ من سباتي تلك الليلة على رؤية في منامي كنت أسترجعُ فيها دقائقَ بعضِ ما عشتُهُ مع والدتي خلال سني عمري. وددتُ ان أقرأ على مسمعها ما كتبتُه عنها قبل أن توافيها المنيّة في آخر ساعاتها، وذلك لآخذ رأيها في ما أوردتُه في ذاك المقال، هي التي تابعتْ منشوراتي بشغف على مدى سنين! قلتُ لنفسي: “عُدْ إلى رقادك يا ولد، وستقوم بتحبير تلك الأفكار لدى حلولِ الصباح!”
وإذ كنت استشفُّ قهوتي الصباحيّة، كنت أفكّر في السفر الذي ينتظرني ذاك اليوم. إلّا ان اتصالاً هاتفياً وردني من أخي صلاح، عكّر مزاجي، إذ أعلمني ان الوالدة فارقت الحياة تلك الليلة! وهكذا أخفقتُ في وداع أمّي قبل أن تغادر!
خلال رحلتي إلى فلوريدا حيث كانت تقطن والدتي بالقرب من أخويّ صلاح وحميد وعائلتيهما، عادت بي ذاكرتي إلى أقصى زمن كان بإمكانها تذكّره! كان بإمكاني استذكار ما حدث معي مذ كان عمري يناهز السنتين والنصف! تذكّرت أول صيف أمضيناه في بلدة بسكنتا وبالأخص رحلة نقل العفش من بيروت على متن الشاحنة الصغيرة التي تبِعت سيارتنا والتي سلكت وراءنا ذاك الطريق الضيّق والمتعدد الإعوجاجات الخطرة والمطلّة على ذاك الوادي العميق!
كلّ الأمهات غاليات على أولادهن، إنما ما تميّزت به والدتي هو الشجاعة والدفاع المستميت عن زوجها وأبنائها الثلاثة! أذكر ثورة ١٩٥٨ عندما طوّق مسلّحون منزلنا الصغير وقتئذٍ في وادي الزينة وطلبوا من الوالد الوقوف في الباحة الأماميّة أمام البيت بغية تصفيته! وإذ بالوالدة تصطفّ إلى جانب الوالد بينما وقفتْ الى جانبها السيدة التي ساهمت بتربيتنا وهي تحمل أخي صلاح وكان طفلا صغيراً! انتهر رئيس فرقة المسلّحين والدتي صارخاً: “زيحي يا مرا، نحنا ما بدنا نقتل نسوان!” أجابته دون ان يرتجف صوتها ، وهي تدلّ على والدي: “أنا ويّاه سوا، أو بنعيش سوا، أو بنموت سوا!” لم يستطع قائد المجموعة إكمال ما عزموا عليه، لذا أمر بأخذهما إلى بلدة شحيم لإجراء محاكمة لهما. وهكذا تدخّل العقلاء وانتهت المسألة دون سفك دماء!
كما أذكر الأحداث التي بدأت سنة ١٩٧٥ والتي تعاقب خلالها مسلّحون على استهداف منزلنا، وكانت الوالدة تصرّ على مخاطبة المسلحين بنفسها دون ان تظهرنا على مرأى منهم! لم تكن تتبكبك لهم، بل كانت تكلّمهم بكل ثقة ومنطق دون أن تثير حافظتهم! وهكذا نجونا من أخطار متعددة إلى أن شاء القدر ان نصبح مواطنين في بلدان كنا نجهلها!
لن أبكيكِ يا والدتي في انتقالك إلى العالم الجديد ، بل يزداد فخري بك انتِ التي لعبتٍ أكبر دور في كتابة حياتي!