بقلم: د. خالد التوزاني
للمغرب علاقات متميّزة مع إفريقيا، منذ أقدم العصور، فقد ظلّت الزيارات بين المغرب وربوع الدول الإفريقية متواصلة دائما؛ سواء عبر التجار المغاربة الذين ربطوا علاقات تجارية متميزة مع مدن غرب أفريقيا أو من خلال استقرار بعض الأفارقة في المغرب الذين أصبحوا فيما بعد جزءاً من مكونات هويته، وكذلك رحلات الحج؛ حيث كان الحجاج من غرب إفريقيا عبر العصور يجتمعون في مراكش أو في فاس، ثم ينطلقون مع الحجاج المغاربة في رحلة جماعية يمرون فيها عبر الجزائر وتونس وطرابلس ومصر متوجهين إلى الديار المقدسة لأداء مناسك حجهم، وصولاً إلى القدس الشريف، ثم في طريق العودة يمرون من المسالك نفسها حتى يصلوا إلى المغرب ومنه إلى ربوع إفريقيا يعود كل وفد إلى بلده الأم، وهكذا، شكّل المغرب محطة أساسية يجتمع فيها الأفارقة.
وقد تعزّزت هذه العلاقات القوية التي ربطت المملكة المغربية بإفريقيا، خلال العقدين الأخيرين، بإنشاء مؤسسات علمية تسهر على حماية هذا الإرث الثقافي والدبلوماسي المشترك، ومن تلك المؤسسات الكبرى نستحضر مؤسسة العلماء الأفارقة التي حملت على عاتقها النهوض بمستوى هذه العلاقات والارتقاء بها إلى نوع من التعاون العلمي القائم على تجميع أكبر عدد من علماء إفريقيا، وتنسيق العمل فيما بينهم لتحقيق نهضة إفريقيا في مجالات الدين والدنيا، عبر الاستثمار في بناء الإنسان الإفريقي وتقاسم ثمرات البحث العلمي الإفريقي مع باقي أرجاء المعمور. وهذه المؤسسة كانت بمبادرة من جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
اتخذت مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة مدينة فاس مقرّاً رئيساً لها، لما تحمله هذه المدينة العريقة من تاريخ علمي مجيد وإرث حضاري عميق يعود لأزيد من إثني عشر قرناً؛ عُمرُ مملكة طبقت شهرتها الآفاق، وكانت محط أنظار العالم في أزمنة النهضة الإسلامية في الغرب الإفريقي والأندلس وعلى امتداد عدة قرون، وهي المدينة التي تضم أقدم جامعة في العالم؛ جامعة القرويين، وقد حافظت فاس على امتداداتها العلمية مع ربوع إفريقيا والعالم، فهي التي تضم أضرحة عدد كبير من العلماء والأولياء والصالحين، حتى وُصفت بالعاصمة الروحية للمملكة المغربية، فلا غرابة أن تُقام على أرضها المباركة مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، لتؤكد هذا التواصل التاريخي بين الماضي الزاخر والحاضر الزاهر في عهد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، والذي ما فتئ يولي عنايته المولوية السامية لتعزيز الروابط الروحية التي تجمع المغرب بإفريقيا.
نظمت مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، يومي 19 و20 أكتوبر 2023 بمدينة فاس، الدورة السنوية العادية الرابعة لاجتماع المجلس الأعلى، والتي عرفت مشاركة واسعة كبار علماء إفريقيا، وتوجت بإعلان ميثاق العلماء الأفارقة.
وقد ألقى الرئيس المنتدب للمؤسسة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق كلمة بالمناسبة نوّه فيها بالجهود الكبيرة التي تبذلها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة وإسهامها في تحصين الأمن الروحي بإفريقيا، كما أكد ذلك أيضاً الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى السيد محمد يسف، وتبدو أهمية هذه المؤسسة من خلال فكرتين؛ الأولى: إسهام أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، في حفظ الدين بإفريقيا. والفكرة الثانية مفادها أن إفريقيا ستتكلم عن نفسها بلسان العلم والإيمان. حيث إن الرابط بين الفكرتين هو: مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، فهي الجسر الحضاري والثقافي الذي من خلاله سيتم إعلاء شأن إفريقيا، وهنا نكون أمام رمزية مؤسسة إمارة المؤمنين في حفظ الدين، وفي حماية العقيدة، وترسيخ الوسطية والاعتدال في نمط التدين بالمغرب وإفريقيا، والمملكة المغربية كانت رائدة في هذا المجال، ليس في العقدين الأخيرين فحسب، وإنما على امتداد عدة قرون، منذ تأسيس جامعة القرويين بفاس، وهو ما يؤكده اختيار فاس مقراً لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وأيضاً اختيار خزانة جامع القرويين بمدينة فاس لإقامة حفل الإعلان الرسمي عن “ميثاق العلماء الأفارقة”؛ وهو ما يعني ربط الماضي بالحاضر، وتجديد العمل في اتجاه توثيق أواصر المغرب بإفريقيا، من خلال إحياء أدوار مؤسسة إمارة المؤمنين التي كانت لها امتدادات واسعة وعميقة في إفريقيا والأندلس منذ العهد المرابطي، واليوم بفضل المبادرات الرائدة لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، يتم الارتقاء بهذه الدبلوماسية لتعزيز السلم الروحي في إفريقيا.
إن الدبلوماسية الروحية التي ينهجها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، تتجاوز حفظ الدين في إفريقيا، إلى رعاية مصالح الدول الإفريقية، وخاصة ما له صلة بتكوين الإنسان الإفريقي وحماية هويته؛ وذلك عبر مداخل متعددة؛ منها على سبيل التمثيل لا الحصر: العناية المولوية السامية بالطلاب الأفارقة في الجامعات والمعاهد المغربية، ودعمهم وتأطيرهم وتتبع مساراتهم العلمية والتكوينية، إضافة إلى استقبال علماء تلك الدول وتكريمهم سواء بإلقاء بعض الدروس الحسنية في حضرة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، أو عضوية مجلس العلماء الأفارقة، أو العمل داخل المغرب والاستقرار فيه، إلى جانب إسهام المغرب مادياً في تحسين البنية التحتية لعدد من الدول الإفريقية بتشجيع المؤسسات الاقتصادية المغربية للاستثمار في تلك الدول الإفريقية وبإنشاء المساجد وإقامة المستشفيات وتوزيع آلاف النسخ من المصحف المحمدي وأطنان من الأدوية والحاجيات الغذائية وخاصة في بعض الأزمات، في فترة الجائحة أو غيرها، إضافة بناء عدد من المراكز الاجتماعية التي تستهدف خدمة الإنسان الإفريقي، وغير ذلك من المبادرات الملكية الرائدة في هذا المجال، والتي تأتي انسجاماً مع أدوار مؤسسة إمارة المؤمنين في حفظ الكليات الخمس وعلى رأسها حفظ الدين والنفس والعقل، وأداء واجب خدمة الأمة والإنسانية، مما أثّر بشكل إيجابي على رؤية الأفارقة للمملكة المغربية، وأدى إلى مزيد من التعاون الإنساني، والذي يُبشر بثورة تنموية جديدة بدأت تتشكل معالمها انطلاقاً من جهود مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
من أهداف إنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة:
- توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين بكل من المغرب وباقي الدول الإفريقية، للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها؛
- القيام بمبادرات في إطار كل ما من شأنه تفعيل قيم الدين السمحة في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في إفريقيا سواء على مستوى القارة أو على صعيد كل بلد؛
- تنشيط الحركة الفكرية والعلمية والثقافية في المجال الإسلامي؛
- توطيد العلاقات التاريخية التي تجمع المغرب وباقي دول أفريقيا والعمل على تطويرها؛
- التشجيع على إقامة المراكز والمؤسسات الدينية والعلمية والثقافية؛
- إحياء التراث الثقافي الإفريقي الإسلامي المشترك من خلال التعريف به ونشره والعمل على حفظه وصيانته؛
- ربط الصلات وإقامة علاقات التعاون مع الجمعيات والهيئات ذات الاهتمام المشترك.
لقد راهنت هذه المؤسسة على تقوية العلاقات المغربية الإفريقية في أكثر من مجال، وعلى رأسها الأمن الروحي، وبذلك حافظ النموذج المغربي على امتداداته في إفريقيا، معززا حضوره بمكتسبات أخرى تتجاوز ما له صلة بالدّين والتديّن إلى أبعاد تنموية وحضارية واعية بتحديات العصر مثل ضرورة توحيد الجهود في سبيل رقي القارة الإفريقية وتحقيق ريادتها، وحماية مصالح شعوبها، فهي كنزُ العالم كما يُطلق عليها في أدبيات الدراسات الاستراتيجية، ومن ثمَّ فقد عمل المغرب على تعزيز حضوره في إفريقيا، عبر الزيارات الملكية المكثفة لبلدان إفريقية شقيقة وصديقة، تؤكّد عناية جلالة الملك، حفظه الله، بشؤون هذه القارة، وكذلك توجيه البحث العلمي في اتجاه رصد تجليات الهوية المغربية في بعدها الإفريقي، لتأكيد قوة الانتماء إلى هذه القارة، وتجديد أواصر الأخوة بين المغرب والدول الإفريقية وإحياء روابط الصداقة والتواصل، لتصبح هذه القارة بفضل وحدتها واجتماعها وتعاونها، مؤهلة لمواجهة كل الأزمات المعاصرة بتقديم حلول جديدة لقضايا مستعصية؛ أهمها الفقر والبطالة والتخلّف والجريمة والإرهاب والتطرف والعنصرية وخطاب الكراهية.. وغير ذلك من التحديات والرهانات، مع استشراف آفاق المستقبل من خلال تحصين الإنسان الإفريقي ضد كل التيارات التي تحاول استلابه ومحو شخصيته الإفريقية.