بقلم: محمد منسي قنديل
مازال خبر انتحار انتوني بوردين يهز العالم كله، المشاهير والناس العاديين، ولكن الفلسطينيون هم الاشد حزنا، فقد فقدوا صديقا كان يتحين الفرصة ليضع قضيتهم تحت الاضواء، وليثبت لآلاف المشاهدين أنهم بشر مقموعين تحت احتلال وليسوا آلات ارهابية، ولكن موت بوردين مازال يثير المزيد من الأسئلة الغامضة، فلا أحد حتى الآن يفهم نفسية المنتحر، ولا كيف وصل للحظة التي قرر فيها أن يضع حدا لحياته، لابد أنها لحظة من العذاب التي لا تحتمل بحيث يكون الموت هو الطريق الأوحد للخلاص، ولكن أي نوع هذا من الخلاص؟
كاتب روائي ناجح، ومذيع محترف في محطة السي إن إن cnn، اشهر محطة تلفزيونية في العالم، زار أكثر من ثمانين دولة حول العالم، وأعاد اكتشاف اجزاء غير معروفة من خلال اطباق الطعام التي تقدم إليه، ومن خلاله كان يكتشف ثقافات الشعوب وتراثها وقضاياها، لم يكن نهما للطعام بقدر نهمة للحياة.. كل الحياة.
المذيع الخير الشغوف بالطعام والثقافات المتنوعة كان معروفا بشكل جيد للفلسطينيين فقد قام بزيارة الارض المقدسة في 2013، وكانت هذه هي النقطة المهمة في مسيرته لأنه ابرز الوجه الانساني للفلسطينيين الذي كان الامريكيون يرفضون رؤيته، لا يرون فقط إلا الوجه الارهابي المزيف الذي تقدمه لهم اسرائيل، لكن بوردين رحل من القدس إلى الضفة الغربية وغزة حتى يلقى الضوء على الطعام الفلسطيني في برنامجه «اماكن غير معروفة»، وفور أن قام معهم بطبخ طبق «المقلوبة» وقد وقع في محبتهم كشعب وثقافة عريقة، واصيب بالصدمة وهو يرى آثار الحصار ومدى عنف الآلة العسكرية للاحتلال الاسرائيلي وهي تقتل دون مساءلة وتغتصب الارض بلا وازع، كان من الصعب على هذا المذيع الدمث أن يتقبل البشاعات اليومية التي كان الاحتلال لايريد للعالم أن يراها، جريمة المستوطنات، الجدار العازل، والحصار الذي لا ينتهي.
كان ابوه كاثوليكيا، يعمل في مجال الانتاج الموسيقي، وأمه يهودية، صحفية مهمة في صحيفة «النيويورك تايمز»، أي أنه اكتسب الديانة اليهودية من أمه كما تقضي تعاليم هذه العقيدة، ولكنه لم يستطع أن يبلع ما يفعله يهود اسرائيل بالفلسطينيين ،حاول الرحالة ذو الحس الانساني أن يوضح:» هناك شر يمثله الاحتلال العسكري، شر يتغاضى عنه الجميع ، والمشكلة أن العديد من الصحفيين الذين يكتبون عن هذه المشكلة يتجاهلون حقيقة القمع والشجاعة التي يبديها الفلسطينيون العزل في مواجهة الآلة العسكرية الاسرائيلية»، كانت هذه هي المرة الاولى التي يعرض على التلفزيون الامريكي شيئا حقيقيا عن الفلسطينيين كبشر واقعين تحت سطوة القمع والمهانة اليومية، كما كان واحدا من القلائل الذين تعامل مع المسلمين والعرب كبشر يبحثون عن العدل والحرية بدلا من الصاق تهمة الارهاب بهم.
منذ بداية عمله في الاعلام وعتده حساسية خاصة ضد مصطلحات مثل الاسلاموفوبيا، والحرب ضد الارهاب، وكل اشكال العنصرية في القانون الامريكي، ولذلك لم يستعن في برنامجه بالمتخصصين، ولكنه اعتمد على المقابلات التي يجريها مع الناس العاديين ، فعل ذلك وهو يحتفل معهم معا بأطباق الطعام المختلفة، لم يكمل تعليمه الجامعي، ولكنه تخرج من مدرسة الطهي بنيويورك، ثم عمل بعد ذلك في عدد من المطاعم الشهيرة قبل أن يبدأ مشروعه في الكتابة، وحقق كتابه الاولى عن مغامرات المطبخ شهرة واسعة، واحتل قمة المبيعات لأشهر عديدة، وقدم أكثر من برنامج في التلفزيون فاز عنها بخمس جوائز «ايمي»، ولكن برنامجه الاخير «أماكن غير معروفه هو الذي قاده للعالم الاسلامي ومن ثم إلى فلسطين، ومنذ اللقطات الاولى في الارض المحتلة وقد أخذ بوردين بالتاريخ الغني للشعب الفلسطيني وقيمه الروحية، وعندما كان في الضفة الغربية في طريقه لزيارة المستوطنات قال شيئا لم يسمع المشاهدون الامريكيون على الشاشة من قبل:» في عام 2003 بدأت اسرائيل في انشاء جدار عازل على الخط الاخضر على الحدود الاسرائيلية الفلسطينية، هذا الجدار الآن يمتد على مدى 450 ميلا، وعندما يكتمل سيبلغ طوله 700 ميلا، 85% من هذا السور موجود على الاراضي الفلسطينية، ومنذ عام 1967 تحرك أكثر من نصف مليون اسرائيلي واقاموا مستوطنات في الضفة الغربية، كلها مخالفة للقانون الدولي والبعض منها مخالف للقانون الاسرائيلي نفسه، ولكن هذا لا يحدث فارقا يذكر، أنهم موجودون على ارض لا تخصهم وبأعداد كبيرة أيضا».
ويحذر في بداية برنامجه: في نهاية هذه الساعة سوف توجه إلي مختلف التهم المتعارضة، مثل متعاطف مع الارهاب، اداة من ادوات الصهيونية، يهودي يكره ذاته، مدافع ومبرر للإمبريالية الامريكية، مهووس بالشرق، متعصب فاشيستي، عميل للمخابرات الامريكية وأسوأ من ذلك..» ورغم كل هذه التهم فعندما شنت اسرائيل حربها على غزة عام 2014 لم يتردد في التضامن مع الفلسطينيين، وشارك على الانترنت صورة لأب يحمل طفلته المصابة وهو يسير بها على الشاطئ الرملي في غزة ، كتب قائلا:» لقد سرت على هذا الشاطئ الرملي، ولي طفلة أخاف عليها، لذلك أعرف مدى الرعب الحاد في هذه الصورة وما تعبر عنه من ألم».
قدر لبوردين أن يشاهد عن كثب جزءا من الدمار الذي احدثته اسرائيل في لبنان، في عام 2005 كان في بيروت يصور احدى حلقات برنامجه عندما بدأت اسرائيل غاراتها، لم يكن فريقه قد صور إلا بضعة ساعات، ووجدوا أنفسهم وسط عداء من انصار حزب الله، وظل حبيس الفندق بينما الطرق والجسور المؤدية لبيروت يتم قصفها يوميا، واخيرا تم اجلاؤه هو وغيره من المواطنين الامريكيين من بيروت بواسطة البحرية الامريكية.
لم يكن بوردين طباخا عاديا، ولم تقتصر مؤلفاته على كتب الطبخ، ولكنه جرب حظه في الكتابة الأدبية وكتب اربع من الروايات حققت بعضا من النجاح والانتشار وكلها تدور في عالم الجريمة،
بعد كل هذا.. لماذا الانتحار؟
لماذا يقدم 1.4% من البشر على الانتحار سنويا؟ لا توجد اجابة محددة، ولكن هناك حوالي مليون شخص ينتابهم نوع من اليأس العميق ولا يجيدون منفذا في حياتهم إلا بالتخلص منها، الفقر والاملاق هو السبب الرئيسي، لذلك فالنسبة مرتفعة في العالم الثالث، البلاد التي يعاني مواطنيها من اقصى درجات الحرمان، ولكن ماذا عندما ينتفي هذا السبب، ويحدث هذا في البلاد الغنية وسط اناس مرفهين، قبل أن ينتحر انتوني بوردين بأيام قلائل انتحرت واحدة من اشهر مصممات الازياء في امريكا هي كاترين بروسنان التي ابتكرت واحدة من اشهر العلامات العالمية «كات سبيد»، وقد باعتها قبل انتحارها بعدة بلايين من الدولارات وشرعت في عمل علامة جديدة مبتكرة، حياتها كانت عملية نشطة لا توحي بأي من اعراض الاحباط او الاكتئاب، رفاهية وشهرة وعلاقات اجتماعية واضواء مسلطة، ومع ذلك قررت الانسحاب من كل هذا وشنقت نفسها في حبل يتدلى من سقف غرفتها، الوسيلة نفسها التي استخدمها بوردين ليتخلص من حياته، ولكن في غرفة بفندق في باريس، وفريق تصويره يسكن في الغرف المجاورة، لم يكن الشبه بينهما في طريقة الانتحار ولكن في نمط حياة الشهرة وتزاحم المعجبين، لا توجد عوارض واضحة للاكتئاب، ولكن ربما كانت هناك حياة سرية لم تتكشف حتى الآن، لقد قالت والدة بوردين عندما بلغها نبأ انتحاره: «هذا آخر شخص في العالم اتخيل أنه يموت بهذه الطريقة»، هل تلعب المخدرات دورها في هذه الأمر، هل يمثل الخلل الجيني والفسيولوجي عاملا آخر، أو ربما هو الخوف من الوحدة والملل من الشهرة ومواجهة الاضواء؟ فعلها قبلهما الممثل الامريكي روبن وليامز حين تناول راضيا جرعة كيرة من المخدرات، وفعلتها اخت ملكة هولندا التي كانت في الثلاثينيات من عمرها، وفعلها كثير من المرفهين دون سبب واضح فالموت يخفي كل الأسرار.