بقلم: ادوارد ثابت
الجزء الرابع والأخير
ملخص العدد الماضي
ترجم قصيدة البحيرة للشاعر الفرنسي لامارتين شعراً ونثراً كثير من الأدباء والشعراء – أما الترجمة شعراً ففيها تلك الصعوبة التي تفصح مفرادتها عن مفردات القصيدة الرئيسية للاحتلاف بين قواعد الشعر الفرنسي وقواعد الشعر العربي فبرغم قوة هذه القصائد في بنائها فهي قد تفسد أو تفقد منها الكثير أو تضيف إليها ما ليس بها – والترجمة إلى النثر هي الملائمة لترجمة مثل هذه القصائد ولكن من ترجموها لم يلحظوا ما به من قصور أضعف بعض الشئ من محتواها وقيمتها .
وقد ترجم القصيدة من المغرب الأديب المغربي أدريس الواغيش ، فعندما تنظر إلى الترجمة بشكل عام تراها جيدة وتشعر أن بها الكثير من أحاسيس لامارتين ، فما ان تدقق فيها وفي ألفاظها ومضمونها حتى تلحظ فيها شيئاً من القصور أغلبه في ترجمة ألفاظ النص من الفرنسية إلى العربية ، وبعضاً منه في الأسلوب الذي يستخدمه الكاتب في كتابتها وعندما يقول الشاعر لامارتين : أهكذا نندفع يوماً إلى شواطئ جديدة ، وفي الليل الأبدي نحمل بلا رجعة ، أفلا نستطيع أبداً على محيط الزمن أن نلقي عرساتنا يوماً ، فالمضمون في ذلك هو أن الشاعر يشعر ان الزمن يدفعه إلى شواطئ أو نواحي مؤلمة فيتساءل في أسى : هل يمكن أن نلقي مرساتنا حتى يمتنع هذا الأمر ، فإذا المترجم يترجم الجملة : نترك مرساتنا ، وذلك يختلف عما يقوله الشاعر : الألقاء هنا بغرض الرغبة عن المسير أما ترك الشئ فهو التخلي عنه ، ولاسيما أن لفظة نلقي واضحة في النص الفرنسي فهي JETER L ancre أي نلقي المرساة وعندما يقول الشاعر وكأنما هو يشهد البحيرة على ما كان بينه وبين حبيبته : أترين لقد جئت وحدي اجلس على خذه الصخرة التي رايتها تجلس عليها ، فيغير الكاتب اللفظ تغييراً لا مبرر له فيتب أجلس على هذا الصخر ، وخاصة أن الجملة واضحة جلية في القصيدة الفرنسية sur cette pierre اي على هذه الصخرة وهناك ما هو أكثر ، ففي الجزء الذي يقول فيه الشاعر وكأنما يناجي البحيرة : الرياح كانت تلقي رغوة أمواجك على قدمي حبيبته المعشوقتين ، يترجم الكاتب بما يلفت الأنتباه (على قدميها الذهبيتين) وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها كاتباً يقول عن قدمي امرأة ذهبيتين إلا ان كان يرى ذلك في تمثال برونزي ، ولكن يبدو أن الكاتب قد أختلط عليه الأمر بين لفظتين في الفرنسية يتشابهان إلا في حرف من الحروف ويختلفان في مضمونهما وهما adore اي المعشوق وتأنيثها المعشوقة ، و dore أي الذهبي وتأنيثها الذهبية وهي ما يترجمها بها الكاتب . وفي جزء من القصيدة يقول فيه لامارتين بالفرنسية ، وكأنما يشهد البحيرة على ما كان بينه وبين حبيبته : هل تذكرين ذات مساء وكنا نسبح في صمت ولا نسمع على البعد على الموج وتحت السماء غير ايقاع المجاديف (من يمسكون المجاديف) تحت مياهك المنغمة فيكتب المترجم : ذات مساء إذا كنت تذكرين ؟ كنا نبحر في صمت ، ولم يكن يصلنا من بعيد في الأفق تحت السماوات غير ضجيج المجاديف وهي تضرب على ايقاع امواجك المنسجمة ، وفي ذلك أمور لابد من التحقق منها : فالمترجم يقول : غذا كنت تذكرين ، فيضع أداة الشرط (إذا) في مكان غير صحيح ‘ فهي قد تكون اسماً أو حرفاً فإن كانت اسماً فهي ظرف يتضمن الشرط وتدخل على الفعل المضارع أو الماضي كأن تقول : الفرصة ضائعة إذا أضفتها (فعل ماضي) أو الفعل المضارع مثل الفرصة تضيع إذا لم تقتنصها ، ثم قد تكون لأمر في المستقبل مثل غذا أجتهدت ستنجح ن وإذا كانت حرفاً فهي تدل على المناجاة مثل رأى الرجل العربة فإذا هي راقية . فالمترجم يضع (إذا) هنا في موضع ليس له علاقة بكل ذلك ، ثم تراه يضع بعد الجملة علامة أستفهام ولا تدفع هذه العلامة في الأسلوب الذي تضمنها . فمن الأفضل أن يبدأ الجملة بحرف الأستفهام (هل) ولاسيما أن ذلك يتطابق مع النص الفرنسي ، ثم يقول (كنت تذكرين) وفي ذلك أختلاف عن مضمون النص وعن واقع الأمر فالشاعر يذكر البحيرة في الوقت الذي هو به (أي في المضارع) على ماكان بينه وبين حبيبته عندما كانا معاً (أي في الماضي) ولذا كان عليه أن يترجم الجملة بهل تذكرين؟ ثم يقول ( كنا نبحر في صمت) والابحار يكون في البحر وليس في البحيرات فابحر الرجل أي تركب البحر ،وهناك لفظ شائع سهل يرافق هذا المضمون وهو (نسبح) ثم في لفظ الأفق الذي يترجمه المترجم ، لماذا هذا التغيير الذي لا مبرر له والذي لا يضيف شيئاً واللفظ في النص الفرنسي جلى لاغموض فيه وهو فوق الموج . وبعد كل ذلك يقول ضجيج المجاديف والضجيج هو الجلبة والصخب وذلك ينأى عن الأحساس الرقيق الذي كان يشعر به الشاعر عندما كان مع محبوبته ومعها يقول أن المجاديف تضرب على ايقاع الأمواج وهنا يختلف عما بالقصيدة فليس لها هذا الايقاع وإنما ايقاع مجاديف القوارب أو من يمسكون بها وهي كما يقول الشاعر للبحيرة تضرب أو تحف مياهك المنغمة وفي جزء من القصيدة يتوسم الشاعر بعض اللحظات الهنيئة فيلقي حديثه إلى الليل فيقول : اترك لي الليل كن بطيئاً ثم وكأنما لا حيله له ، لا يرى فيه جدوى فيضيف : ولكن الفجر سوف يبدده ، ولكن المترجم يلقي كل الحديث إلى الليل فيقول : لذا أقول لهذا الليل : تمهل الفجر سبدد ظلمتك وهذا أختلاف في الترجمة من ناحية وتحرك وأغفال عن احساس الشاعر الذي يضمنه قصيدته من ناحية ثانية . وعندما يتحدث الشاعر عن السعادة وكأنما يؤنبها أو يؤنب الزمن الذي يسلبها فيقول في دهشة وتعجب :بإذا ! (أو ياللعجب) هي تمض دائماً ، وكل شئ يضيع ، فإذا المترجم يقول ويكتب : ماذا ؟ نمضي كي لا نعود . فوضع أداة استفهام بعد ماذا وكان لابد من أن يضع علامة التعجب(!) ، أما الجملة التي بعدها فليس لها علاقة بما يضمنه الشاعر إلا إذا كانت كتابة النص العربي خاطئة فنسيت نقطتان حتى تكتب تمضي كي لانعود . ثم هناك خلط بين الترجمة العربية وبين النص الفرنسي في جزء منه ، وهو جلى لاريب فيه ، عندما يناجي الشاعر أركان البحيرة التي تحيط بها فيقول : أحفظوا من هذه الليلة ، ثم للطبيعة بها احفظي ايتها الطبيعة الخلابة على الأقل التذكار ولكن المترجم يناقض ذلك فهو أولاً يضم كل هذه الأركان معاً ويضم معها الطبيعة ويضع الفعل مفرداً فيقول في هذا الخلط أحتفظي من هذه الليلة بجمال الطبيعة أو على الأقل بهذه الذكرى ، فما علاقة أحتفاظ البحيرة وما حولها بهذا الجمال بما يقوله الشاعر في قصيدته ، ففي النص الفرنسي يضع الشاعر فاصلة أو فاصلتين بين أركان البحيرة وبين الطبيعة لم يدركهما المترجم فوقع في هذا الخطأ ثم لم يترجم الجملة أو الجملتين بطريقة صحيحة ، فانظر إلى النص الفرنسي يقول فيه الشاعر للبحيرة وما حولها gardes de cette nuit أي أحفظوا من هذه الليلة ثم فاصلة ثم للطبيعة gardez,belle nature au moins le souvenir وهي وأحفظي أيتها الطبيعة الجميلة على الأقل التذكار ولكن المترجم لم يفهم الجملتين ولم يدرك في اللغة الفرنسية مضمون أساليبها ووضع تراكيبها ، فكما يبدو عندما ترجم إلى اللغة العربية في هذا الجزء belle nature أي ايتها الطبيعة الجميلة غذا هو يقول بجمال الطبيعة وهذا خطأ . وهناك خلط أو قصور في أدراك وفهم ألفاظ اللغة الفرنسية في هذه الترجمة لا مبرر له إلا إذا كان هو عدم الأدراك فعندما يقول الشاعر لما حول البحيرة : على مرأى من تلالك الضاحكة يقول المترجم ثغورك باسمة ، وليس وضع أداة التعريف في باسمة هو المهم وإن كان لابد منه ، ولكن هناك فرق بين التل وبين الثغر فالتل coteau وهو ما كتبه الشاعر لامارتين هو ما ارتفع عما حوله من الأرض وهو دون الجبل أما الثغر ومنه بعض الألفاظ كالفم bouche أو الميناء port أما هنا فهو الفرجة في الجبل وغيره من المواضع وهو في الفرنسية crevasse أو breche وقبل ذلك الخلط بين الشاطئ والخليج عندما يقول الشاعر أنغام شطآنك les bruits de tes bords يقول المترجم الأنغام التي تحدثها خلجانك ، والشاطئ معروف وهو النهر والبحر والوادي وهو الشط أو الجانب أما الخليج baie أو golfe فهو ما ينشق عن البحر أو الجزء من النهر يمتد بين اليابس . وعندما يتحدث الشاعر لامارتين عن النجم الذي يضئ صفحة البحيرة ويقول : في النجم ذي الجبين الفضي الذي يضئ سماءك بأشعته اللينة يقول المترجم : في النجم الفضي الذي يضئ سماءك بأشعته الخافتة فليس هناك مبرر لهذا التغيير أو الخلط ما بين الألفاظ ولاسيما أن اللفظ الفرنسي جلى وهو : ta surface أي سطحك وخي ton ciel فشتان بين الأثنين ، فمن الأفضل أن تقول لسطح المياه في البحيرة وغيرها في اللغة العربية وجهها أو صفحتها . وتظل تلك الجملة التي أنهى بها المترجم الأديب والصحافي المغربي أدريس الواغيشي ترجمته والتي يشهد بها الشاعر البحيرة وما حولها على أن يقروا بما كان بين هذين العاشقين فيترجمها مثلما وضعها غيره من قبل ويقول : كل شئ هنا يقول : أنهما أحبا وعلى الرغم من ان هذه الجملة هي ترجمة حرفية للغة الفرنسية ، فمن المعروف أن الجملة لاتترجم دائماً من لغة إلى لغة حرفية ، وإنما الفصل في ذلك هو مراعاة الأسلوب ما بين اللغتين فكان الأفضل له أن يقول : لقد كانا حبيبين عاشقين ، ولاسيما إذا كانت هي التي ينهى بها نصه الذي لابد وأن يكون مطابقاً للغة من ناحية ، ويعطي الأحساس بالمضمون من ناحية ثانية . أرأيت تلك الدهشة التي تثيرها تلك الترجمة وغيرها وما يعتريها من قصور غامض أو خلط وليس من شك في أن يكون المترجم في مثل هذه القصائد وغيرها على فهم باللغة الفرنسية وأسلوبها فهماً صحيحاً ، وعلى فهم معها بقواعد اللغة العربية وأسلوبها فهماً صحيحاً ، والتوليف بينهما فيما يراعي أصول الترجمة من لغة إلى لغة . أما من ترجم القصيدة من مصر فهو الدكتور محمد مندور ، وقد أعجبتني ترجمته كثيراً لأمرين مهمين أولهما حفاظه على مضمون قصيدة لامارتين بشكل عام وعلى مضمون مفرادتها بشكل خاص ، أما الأمر الثاني فهو إبراز الأحساس الذي أودعه لامارتين في قصيدته ، وقد ساعد على هذا الأحساس أختياره الألفاظ الجزلة الموحية والتزامه بوضع ترجمته النثرية على هيئة مقاطع رباعية مشابهة الرباعيات الشاعر ، إلا هفوات قليلة لاتنقص من قيمتها ، وفيها عندما يقول لامارتين وكأنما يؤنب الزمن : الا نستطيع أبداً على محيط الزمن أن نلقي مرساتنا يوماً فإذا محمد مندور يقول : أو ما نستطيع ان نلقي على شاطئ الزمن اللجي بمرساتنا يوماً ، وإضافة لفظ اللجي ليس غريباً أن يربطه بالزمن ، بل من اللائق أن يضيفه ، ولكنه يغير لفظ محيط الذي وضعه لامارتين وهو ocean إلى شاطئ مما لا مبرر له إلا إذا رآه يرتبط بالبحيرة – ثم عندما يحاكي لامارتين رياح البحيرة عندما كانت تلقي رغوة أمواجها على قدمي حبيبته أما محمد مندور يقول كانت الرياح تلقي بزبد أمواجك على قدميها المعبودتين ، وأختياره لفظ زبد أختياراً راقياً فهي رصينة فزبد الماء واللبن والبحر وغير ذلك رغوته ، اما على قدميها فمن الحق أن adore التي استخدمها لامارتين تترجم في معاجم اللغة بالمعشوق أو بالمعبود وتأنيثهما المعشوقة والمعبودة ، ولكن كان من الأفضل أن يقول المعشوقتين حتى ينأى عن مضمون العبارة والتعبد . وعندما يتحدث لامارتين عنه وعن حبيبته عندما كان يسبحان بالبحيرة فلا يسمعان إلا إيقاع المجاديف تحف مياه البحيرة المنظمة يقول محمد مندور : كنا لا نسمع .. غير حفيف المجاديف وهي تضرب في صمت أمواجك الناغمة فلفظ الصمت الذي أستخدمه المترجم وهو silence يختلف عن اللفظ الذي وضعه الشاعر وهو إيقاع cadence ثم عندما يشهد الشاعر البحيرة وما حولها عما كان بينه وبين حبيبته فيقول على مرأى من تلالك الضاحكة ، لم يكن هناك مبرر في أن يغير الدكتور محمد مندور اللفظ إلى شواطئك الباسمة ، فلفظ الشاطئ الذي وضعه المترجم رغم التشابه الطفيف بين اللفظين وهو cote أو rivage يختلف عما وضعه لا مارتين في قصيدته وهو cateau أي التل . والدكتور محمد مندور هو من بين ترجموا هذه القصيدة ، فأنها ها بتلك الجملة التي ترجموها حرفياً فلم تكن منهم موحية ، أما هو فلم يقل مثل هؤلاء لقد أحبا أو أنهما أحبا إنما يقول : إنهما كانا حبيبين فكانت موحية كثيراً ، فالجملة ولاسيما وقد وضعت في نهاية النص لابد وأن تكون عذبة كمضمون القصيدة كالقفلة الموسيقية في اللحن الموسيقي التي تثير في المستمع العذوبة والشجن مثلما تثيره القفلة اللفظية من الأحساسيس في النص الأدبي إن صح أن تكون بين الأثنين مثل هذه العلاقة على أن تختلف الجملة بأختلاف الموضوع ز فمن اليقين أن ترجمة الدكتور محمد مندور راقية بشكل جلى ، تبدو فيها كفاءته في فهم قواعد اللغة الفرنسية وأسلوبها وكفاءته في فهم قواعد اللغة العربية وأسلوبها والتوليف بين الأسلوبين بطريقة رصينة مما يدل على تمكنه في أصول الترجمة ومعرفة توظيفها .