بقلم: شريف رفعت
القضية كانت الموضوع المفضل و تقريبا الموضوع الوحيد لحديث الوالد، يعرف تاريخها و أبعادها و يتحدث عنها بمعلومات خبير و بحماس ثائر، إبنه و بناته الثلاث يستمعون لحديث الوالد باهتمام و يشارکون في الحديث بآرائهم المتفقة مع آراء و أفكار الأب. الإبن كان أكثرهم إهتماما و تحمسا، شعر بأنه يرث القضية، لم يزعجه هذا الشعور بل شجعه على الحلم، أصبحت القضية تحدد هويته، أصبحت هي حياته.
في الأسابيع الأخيرة لاحظ الابن عزوف الوالد عن حديث القضية، عندما فتح معه الموضوع وجده غير مرتاح و يحاول تغيير النقاش. إضطر الابن للمواجهة، سأل الأب بطريقة مباشرة:
ـ ماذا حدث؟ هل قل أم إنعدم إهتمامك بالقضية؟
أجاب الأب:
ـ ما هي القضية؟ يجب أن ننظر للحياة نظرة ذكية شاملة، أرى أن القضية هي المقدرة على المعيشة عيشة مريحة، حيث يحصل الناس على وظائف جيدة، يتلقى الأولاد تعليما راقيا، يتمتع الجميع برعاية صحية شاملة و هناك مرافق مناسبة تقوم بخدمة الشعب. هذه هي القضية، و هذا ما يجب على الجميع أن يحاولوا تحقيقه.
سأله الابن:
ـ تحقيقه كيف؟ ما هو طريق الوصول.
ـ أي طريق يحقق هذه الأهداف هو طريق مناسب ويجب عدم التردد في إتخاذه.
ـ هل هذا التغيير في طريقة تفكيرك مرتبط بنشاطك التجاري الزائد في الفترة الأخيرة و بالأفراد الذين بدأت تتعامل معهم حديثا؟ و الذين ـ بصراحة ـ أجد أنهم ليسوا فوق مستوى الشبهات.
ـ إذا كان نشاطي التجاري مؤخرا سيقود الأسرة إلى ما ذكرته من راحة ورفاهية في العيش لماذا لا؟ ثم ما الذي تقصده بأن من أتعامل معهم حديثا ليسوا فوق مستوى الشبهات؟ إنهم أفراد أذكياء ذوي خبرة و بعد نظر.
أجاب الابن محاولا ألا يفقد أعصابه:
ـ أليس هؤلاء من كنت تهاجمهم بشدة عندما كنت تتبنى القضية؟ ألم يكونوا اعداءك واعداءنا و أعداء القضية؟
ـ حبيبي الظروف تتغير، أعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء اليوم إذا كان في ذلك منفعة للناس و للمجتمع. أنت مازلت صغيرا لذلك تفهم القضية بمفهومها الضيق المحدود، لكن أرجو أن يتغير رأيك و أن تتسم بالذكاء و سعة الأفق و الفطنة، أليس هناك حديثا نبويا يقول «المؤمن كـَـيـّـِـس فـَطـِن»؟
ـ يا أبي تتخلى عن القضية و تبرر ذلك دينيا.
ـ أنا لم أتخل عنها، لكن كما قلت لك في البداية مفهومي للقضية أصبح مختلفا، أصبح أكثر شمولا و انفتاحا و أرجو أن يصلك هذا المفهوم.
ـ بالتأكيد لقد إتفقنا على ألا نتفق.
أصاب الابن الإكتئاب، لكن موقفه من القضية لم يتغير، بالعكس لقد شعر بأن دوره في دعم القضية و الدفاع عنها قد زاد و أصبح ملحا مادام الأب قد تخلى عنها.
يدخل البيت في إحدى الأمسيات، هناك زوار في حجرة الجلوس، يدعوه الأب للدخول و الجلوس معهم، يعرفهم، هؤلاء هم شركاء الأب الجدد، جميعهم يرتدون ملابس أنيقة و يبدون في أحسن صورهم. جلس صامتا يستمع لحديثهم، حتى حديثهم أنيق و محسوب، يستخدمون ألفاظا فخمة و يتكلمون بطريقة مدروسة مؤثرة. الأب يحاول أن يجاريهم، الابن يشعر نحوه بالغيظ الممزوج بالأسى و الخجل.
يلاحظ كبير الزائرين صمت الابن، يسأله:
ـ ما رأيك في شراكتنا مع أبيك؟
يرد الابن:
ـ أرى أنها خيانة للقضية، أنا لا أمانع في الشراكة لكن بعد حل القضية حلا عادلا، أنتم في موقف القوة و تستغلون ضعف أبي و قلة حيلته كي تقيموا شراكة غير عادلة، شراكة في مصلحتكم أنتم و على حساب أبي.
يظهر الحرج على وجه الأب، يهم بالحديث. لكن الرجل يبتسم إبتسامة واسعة و يرد:
ـ يعجبني فيك حماسك، حماسة الشباب، الذي أرجو أن يمتزج ببعض الحكمة، لماذا لا تنضم لمشروعنا كمساعد لأبيك؟ و بالتالي يكون لك دور في إتخاذ القرار.
قال الابن لنفسه «إبن العاهرة يحاول أن يحتويني»، رد:
ـ لماذا لا تبدأون بحل القضية حلا عادلا و وقتها سأرحب تماما بالتعاون معكم؟
إنصرف الإبن، بينما حاول الأب تبرير موقفه بصغر سنه و حماسته و إندفاعه.
بعد هذه الزيارة بيومين مات الابن في حادث سيارة، سيارة الجاني لم يـُعْثـَر على أثرها.
حضر شركاء الأب الجدد العزاء، ظهروا في منتهى الحزن و الأدب و التحضر و هم يواسون الأب.
بعد إنصراف المعزين إنفرد الأب بنفسه و بكى، بكى بكاءا مُرا، بكى كما لم يبك في حياته.