بلقم: محمد منسي قنديل
من يتذكر الفنانة الشهيرة التي اختفت فجأة عن الأضواء وهي في قمة تألقها، التي تركت كل شيء لتتزوج من الرجل الثاني في مصر، الذراع الأيمن للرئيس جمال عبد الناصر، المشير عبد الحكيم عامر الذي كان يقول عن صداقته مع ناصر: “ من السخرية أن يكون صديقي طول العمر هو ألد اعدائي”، لقد كانت تلك الصداقة المشئومة سببا حاسما في حدوث أقسى هزيمة عانت منها مصر في تاريخها المعاصر، السيدة برلنتي كانت زوجة سرية للمشير لعدد كبير من السنوات، وهم سر لم يذع للعامة إلا بعد ان مات المشير، او قتل او انتحر كما تتضارب حوله تلك الروايات، عاشت معه كل سنوات الهزيمة، وأشك إنها شهدت معه أيام الانتصار، كان الانتصار هو نوع من الوهم، في مسلسل اذيع تقوم الفنانة “درة” بدور برلنتي، وهي من الوجوه الجميلة التي جاءت لنا من تونس، ولكن برلنتي أقل جمالا ولكنها أقوى شخصية، نفيسة بنت البلد الجدعه التي جاءت من باب الشعرية وتمردت على مستقبلها المقرر لها كخياطة تجيد التطريز وغيرت اسمها إلى “برلنتي” لتقتحم مجال الفن وصعدت على المسرح ووقفت أمام كاميرات السينما وتحولت لنجمة متألقة، ولكن بعد ان شاركت في 18 فيلما وعددا من المسرحيات اختطفها المشير ووضعها في عالم الظلال، كانت في ذروة نضجها كأنثى، واقصى شهرتها كممثلة، ولكنها اختفت من على الشاشة منذ أيام الابيض والاسود، لم تظهر إلا في فيلم ملون عابر لم يضف لها كثيرا.
تقابلت مع السيدة برلنتي في بداية الثمانينات بعد أن تغيرت مصر وانقلبت الاحوال وهبط الذين كانوا سادة في عصر عبد الناصر، وتحول معظمهم إلى مدانين وسكنوا السجون بدلا من القصور، وجاء سادة جدد يتظاهرون بالأمانة والوطنية، هكذا الحال مع تغير كل نظام، كنت في مرحلة حرجة من كتابتي الأدبية، أكتب القصة القصيرة واشعر أنها ليست كافية ومع ذلك كنت متهيبا من الدخول في مجال الرواية، واقترح على صديقي المخرج الموهوب “خيري بشارة” أن اكتب سيناريو عن السيرة الشعبية المعروفة “علي الزيبق”، وكان طموحه أن نخلق روبن هود مصري يمتاز بالشهامة والذكاء وخفة الدم، ولعل هذا هو الذي حببني في أسم علي، بدأت اتعلم كتابة السيناريو على يدي خيري، وكيف اقسم صفحة الورق إلى قسمين احدهما لوصف الصورة الآخر للحوار، وقمت بالفعل بكتابة نسخة أولية للسيناريو، وهتف خيري، رائع ..عظيم، وجاء بالفعل بمنتج مقتنع ومستعد للمجازفة بإنتاج فيلم تاريخي، وقع معي عقدا واعطاني مقدما كبيرا من المال، وثم ابدى خيري عدة ملاحظات أساسية جعلتني اعيد كتابة السيناريو من جديد، ومرة أخرى هتف بي مشجعا وجعلني أعيد كتابته للمرة الثالثة، ثم جاء المرحلة الحاسمة وهي اختيار مجموعة الممثلين، كان أحمد زكي وقتها هو النجم الأول بلا منازع وهو الذي سيقوم بدور “علي الزيبق”، البطل والفارس الشعبي، ولكن كان هناك دور آخر لا يقل في اهميته هو دور دليلة المحتالة، منافسة “الزيبق” وغريمته القاسية القلب، محور الشر في الفيلم والتي عليها ان تقاوم ألاعيبه وتقبض عليه، كان الدور يحتاج إلى امرأة متوسطة العمر، حادة الشخصية وعلى جانب من الجمال أيضا، كنت افكر في ليلى فوزي ولكن خيرى اقترح فجأة اسم برلنتي عبد الحميد، لا أدري من أين جاء بها ولا كيف تذكرها من عالم الظلال، قال أنه سمع أنها تريد العودة للشاشة بشدة وأنها فقط تبحث عن دور يليق بها، وليس هناك دور افضل من دليلة المحتالة، وبالفعل اجرى خيرى اتصالاته بها وارسل لها نسخة من السيناريو، ولم توافق السيدة على الدور فقط ولكنها دعتنا لعشاء عمل في بيتها أنا وخيرى وبرفقتنا المنتج لمناقشة تفاصيل الفيلم.
لم يكن بيتا فاخرا مليئا بالأثاث ولا مزدحما بالألوان كما توقعت، كان شقة بسيطة مليئة بالفراغات، تغلب عليها العتمة، كأنها تحمل طابعا من المأساة التي مرت بها ، فرغم مرور عددا من السنوات مازالت ذكرى انتحار أو مقتل سيد المنزل عبد الحكيم عامر ماثلة في الأذهان، كانت السيدة برلنتي مضيافة رائعة وحفية، تحتفظ بجانب واضح من جمالها وسحرها القديم، لكنها كانت لا تريد التحرر من الصورة المأخوذة عنها فقط ولكن تريد التحرر من كل السنوات التي عاشتها في الظل، بدأت تناقشني في تفاصيل السيناريو، وعرفت أنها أرسلت إلى مكتبات الأزهر من يشتري لها نسخة من السيرة الشعبية القديمة، كانت ذكية وتريد أن تكون على علم بالمادة الخام التي نعمل عليها، بدأنا النقاش، وكان هدفها ، مثل كل النجوم، زيادة مساحة الدور الذي ستلعبه على الشاشة، وقدمت أكثر من اقتراح ذكي، ولكني كنت منزعجا لأنني سأضطر لكتابة السيناريو للمرة الرابعة او الخامسة لا اذكر، ولكني كنت مأخوذا بسحر هذه السيدة، خاصة ونحن نجلس على مائدة منخفضة تشبه الطبلية الموجودة في البيوت الريفية ونستمتع بطابع الحميمية الذي تضفيه السيدة على اللقاء، واقبل علينا شاب طويل القامة لحد ملحوظ وقدمته لنا في فخر على أنه ابنها الدكتور عمرو عبد الحكيم، وصافحنا الشاب بمودة وتركنا، ولكني تذكرت فجأة أن هذا هو ابن عبد الحكيم عامر، وأننا نجلس في البيت الذي كان يعيش فيه ثان اخطر رجل في مصر، وربما على نفس الطبلية التي كان يأكل عليها، تلفت حولي فوجدت الجدران خالية إلا من صورة وحيدة له في الأعلى، صورة جانبية قديمة بالأبيض والاسود وبالزي العسكري، يحدق فينا بنظرة نفاذة، نظرة السلطة المطلقة في وطن كان وقتها يرتعد خوفا، تسلل إلي شعور الخوف رغم ان كل شيء قد انقضى، ولم ادر إلى اي مدى كانت مساهمة هذه السيدة في وقائع هذا العصر، قيل ان معظم قرارات المشيرة الخاطئة ولدت في هذا البيت، وربما في المكان نفسه الذي كنا نجلس فيه الآن، وقيل أيضا أن المشير رغم ترقيته لهذه الرتبة العسكرية الكبيرة قد نسي معظم العلوم العسكرية التي تعلمها، وفي صباح 5 يونيو عندما علم أن سلاح الطيران المصري قد تم تدميره على الأرض فقد اعصابه واصدر على الفور أمرا بانسحاب القوات من سيناء، تماما كما فعل في عام 56 رغم فارق ظروف المعركة، وبسبب هذا القرار أصبح الجيش مكشوفا للطيران الإسرائيلي الذي عاث فيه قتلا وتشريدا، وبعد 6 ساعات فقط كانت الهزيمة مروعة، ولكن السيدة برلنتي لم ترى أن هذا كان السبب، أن الهزيمة كانت جزءا من مؤامرة، ليست ضد مصر ولكن ضد المشير بالذات، كانت تريد أن يكتب أحد الحقيقة كما تعرفها، وقالت أنها قد ذهبت إلى نجيب محفوظ شخصيا، الذي كان بسكن في شقة اسفل شقتها لها وقد لعبت بطولة اول فيلم كتبه للسينما “درب المهابيل”، ولكنه قال لها بدماثته المعهودة: “هناك الكثير من الكتاب، ولكنك وحدك تملكين الحقيقة”، وقد عملت بالنصيحة فكان كتابها “المشير وأنا” الذي يعرض جانبا من الحقيقة، وسخرت فيه كل امكانياتها للدفاع عن الرجل الذي أحبته، وعن الابن الاوحد الذي كان ثمرة زواجهما.
لم ينفذ فيلم “علي الزيبق” رغما أننا سرنا شوطا طويلا في التجهيز له، وهو ما يحدث للكثير من الأفلام، بل واخترنا المواقع التي سيتم فيها تصوير المشاهد التاريخية في مصر وسوريا، وظلت السيدة برلنتي غائبة في الظلال حتى وفاتها في عام 2010 عن عمر يناهز 75 عاما، وكان يمكن تكون عودتها مكسبا كبيرا لصناعة التمثيل لأنها ستحتل دور المرأة المتوسطة العمر بمقدرة وجاذبية من النادر أن نجدها عند سيدة أخرى.