بقلم: بشير القزّي
في بداية الأحداث الدامية اللبنانية كانت المنطقة الشرقيّة منعزلة تماماً عن باقي المناطق اللبنانية وكان مجرّد الانتقال من منطقة الى أخرى يعرّض المرء لخطر الموت كون كلّ المحاور والمعابر تقع تحت سيطرة المسلّحين والقنّاصين. وإذ كان عليّ العبور الى المنطقة الشرقية لتكملة بعض الدروس ومن ثمّ استلام شهادة التخرّج، خاطرت بالسفر عبر دروب وعرة وملتوية استهلكت يومين من الزمن وذلك لقطع مسافة كانت تأخذ أقل من ساعة قبل تلك الأحداث!
مكثت عند ابنة عمي هلا وزوجها في شقتهما التي كانت تقع في منطقة زوق مكايل. كان سعر صفيحة البنزين مرتفعاً جداً ولذا كنت أفضِّل التنقّل سيراً على الأقدام في المساء لقضاء بعض الوقت مع أصدقائي الذين كانوا يقطنون تلك المنطقة او الذين حكم عليهم القدر بأن ينزحوا اليها بسبب التهجير. من بينهم كان صديقي بسام من الدامور الذي يتردّد على نفس الجامعة.
كنت أقصد منطقة الكسليك في جونية حيث ألتقي بعض صحابي ونجتمع عند احدهم حيث نرتشف فنجان قهوة ونحن نتجادل في الأمور السياسية والتي لم نكن نفهم منها شيئاً (وما زلنا) .
في احدى الأمسيات وإذ كنت أرافق زميلي بسام في نزهة سيراً على الأقدام التقينا بصديق لنا اسمه سامر عرفناه منذ فترة وجيزة تُعدّ بالأسابيع. دعانا لتناول وجبة العشاء في منزل والديه الذي كان يقع في الطابق الثاني من مبنى في منطقة الكسليك.
ما ان دخلنا الشقّة حتى رحب بِنَا الوالدان اللذان كانا في بداية العقد السادس من العمر. كانوا يتحدّرون من عائلة كريمة من دير الأحمر التي سمعت عنها كثيراً ولم أزرها في حياتي. جلسنا في الصالون الذي اذكر من فرشه القماش القطني المعرّق برسومات باللون الأحمر فوق خلفيّة من البيج الفاتح.
بعد دقائق دعانا سامر للإنتقال الى غرفة الطعام التي كانت مفتوحة على غرفة الجلوس. التقينا هناك بفتاتين تعدّان المائدة عرّفنا بهما سامر على إنهما أختاه «مريم» و»سناء». كانتا حسنتي المظهر زرقاويتي العينين ويبدو شعرهما الفاتح اكثر تألّقاً وهو يزيّن بشرة وجه كل منهما ووجنتيهما المائلتين الى الاحمرار. اما مريم التي تكبر اختها بسنتين او ثلاث فكان جسمها ممتلئاً وقامتها أقل امتشاقا من سناء التي تُذكِّر الناظر اليها بمُقدّمات البرامج التلفزيونية.
اما الطاولة فكانت خشبيّة ومستطيلة الشكل. جلس على رأسها سامر وهو يدير ظهره نحو الصالون حيث مكث الوالدان يتسامران على كنبة عريضة. اما بسام فجلس على اليسار بينما استقررت قبالته وجلست مريم بجانبي. اما سناء فجلست على مؤخّرة الطاولة بمواجهة اخيها.
وبعد الانتهاء من العشاء تم تقديم القهوة بفناجين «الشفَّة». وإذ كنت انظر الى وجه سامرلاحظت ان صندحته تتسع عن يمين ويسار شعره الاسود ولمحت قليلاً من الإحمرار يشوب بياض عينيه!
وإذ به يسألنا: «بتصورخوا؟» لم أفهم بالبدء ما قصده ثم ايقنت مراده عندما سأل بسام: «لمَ لا؟»
انتابني ارتباك شديد ولم أكن من الذين يشتهون هكذا تجربة! والأغرب من ذلك ان تتم «الصّورَخة» بوجود الفتاتين وبحضور الوالدين اللذين كانا يرقباننا من الصالون!
غاب عنّا سامر دقيقة أو أكثر ثم عاد ومعه شيء في يده. وضع على الطاولة كبتولاً صغيراً بنّي اللّون بدا طيّع الملمس كالمعجونة التي يلعب بها الأطفال. قال انها من زهرة المواد التي تستخرج!
اقتطع مقداراً صغيراً منها بظفره وخلطه بالتبغ الذي لفّه بورقة سجائر ومن ثمّ بلّل طرف الورقة بلسانه وألصقها بعد ان برمها على نفسها فأخذت شكل سيجارة. تحسسها بأصابعه وتأكّد من توزيع المواد بداخلها ثم وضعها في فمه وأخذ ولّاعة وأشعلها ثم أخذ مجّة منها واخرج من انفه بعد ثوانٍ الدخان الذي كان قد تلقاه في رئتيه وعبقت رائحة لم أعرفها من قبل!
وإذ كنت أجلس عن يمينه مرّر السيجارة لي وكنت في غاية الارتباك. تطلّعت من حولي وكانت الأنظار مُسَلَّطة عليّ وكأنَّ الأمر عاديّ بامتياز ما عدا التعجّب من تردّدي في تسلّم السيجارة. أخذتها ومججت كما فعل سامر وأحسست بان شيئاً ما صعد الى دماغي!
خجلتُ من ان أمرّر السيجارة الى مريم فقمت بمد يدي لتقديمها لباسم الذي تعجّب وقال لي: «لمّ لا تكمل الدورة؟» عندئذٍ أمسكت بطرف السيجارة بيدي اليمنى ومددتها نحو مريم فأمسكتها وأخذت مجّة منها ثمّ حوَّلتها لأختها التي رفضت فاستلمها بسام. كانت دورتان كافيتان لاستهلاك السيجارة!
في طريق العودة وبينما كنت أمشي أمام ثكنة صربا للجيش شعرتُ ان أذنيّ تداعبان الغيوم بينما تكاد رجلايَ تلامسان الأرض! تساءلت: هل الابتعاد عن الواقع يساعد على حل مشاكل الحياة؟