بقلم: محمد منسي قنديل
منذ أن بدأت تجوالي حول العالم في التسعينات وأنا اشاهد في المطارات أشخاصا عالقين، حلمهم الوحيد أن يتجاوزا البوابات والحراس ليصلوا إلى أمريكا، أناس من مختلف الاعمار والجنسيات، باعوا كل ما يملكونه واقتلعوا جذورهم من ارضيهم، ووضعوا رهانهم الأخير على الوصول إلى ارض الميعاد، جنة الله التي لم تذكر في أي كتاب سماوي، ورغم أن قلبها قاس، وسياستها عدوانية وعدالتها متحيزة، لكن السعي إليها لا يتوقف، لأنها الأمل الأخير لمن ضاقت في وجههم السبل، ومنذ اكتشاف أمريكا في أواخر القرن الخامس عشر ولا أحد يعطل الهجرة إليها، ماعدا رئيسها الأخير دونالد ترامب الذي وضع العقبة الأولى، والخوف أن تتلوها عقبات أخرى، رغم أن ترامب نفسه كان يؤمن بغير ذلك ويدرك مدى أهمية المهاجرين، وهو أصلا متزوج من مهاجرة لم تكتمل اوراقها الثبوتية إلا منذ قليل، فقبل عام من انتخابه قال في حديث إذاعي: «انني اشعر بالأسف حين يتخرج أحد من جامعة هارفرد او ييل أو بريستون أو ستانفورد ثم نسمح لهم بمغادرة البلاد دون أن يستطيعوا العودة، علينا ان نبقيهم جميعا، علينا أن نخلق الافراد الذين يستطيعون خلق الوظائف، وأن نحافظ على المواهب داخل البلاد». وكان يعتمد في قوله هذا على حقيقة أن ثلاثة ارباع الذين يعملون في وادي السيلكون قادمين من دول جنوب أسيا.
ولكن الرأي تغير فور ان اعلن عن ترشيحه، فقد اعلن انحيازه المطلق للجنس الأبيض، وبنى حملته الانتخابية على العداء للمهاجرين، وكشف عن وجهه المتعصب، وفور فوزه بالانتخابات اصدر قراره الأخير بمنع مواطني سبع من الدول الإسلامية من دخول أمريكا بدعوى حمايتها من إرهابهم، رغم أنه لا يوجد مواطن واحد من هذه الدول تم اتهامه بالقيام بأي عمل إرهابي داخل أمريكا منذ عام 2001، واستثنى ترامب في قراره القادمين من السعودية رغم ان الجزء الأكبر من منفذي هجمات سبتمبر كانوا من مواطنيها، ولكن ترامب اختار بعناية دولا مفككة، بلا نظام ولا حكومة وفريسة للحروب الأهلية ماعدا ايران، لذلك فقد توقع آلا يوجد من يقاوم هذا القرار، ولكن المفاجأة أن اقوى الاعتراضات على هذا القرار جاء من داخل أمريكا نفسها،
كانت ردة فعل المجتمع الأمريكي المدني غريبة ومفاجئة بالنسبة لي على الأقل، فقد كنت اعتقد ان الجماعة الإسلامية مهدرة الدم وسيئة السمعة، لا احد يحاسب الذين يوغلون في قتلها وعلى رأسهم إسرائيل، كما أنها متهمة بالإرهاب، فكل الذين تم القبض عليهم كانوا مسلمين، عرب أم جنسيات أخرى ولكنهم مسلمون، ولكني فوجئت بمن يدافع عنهم ويقف ضد اقصائهم، ويمكن القول أن مخاوفهم الخاصة من تبعات عهد ترامب قد تجسدت من خلال هذه الاحتجاجات التي يمكن ايجاز أسبابها في ثلاثة ملاحظات:
الملاحظة الأولى هي الخوف على الدستور: فالعديد من الساسة يرون أن قرار الحظر مخالف لروح الدستور الأمريكي الذي لا يمنع أحد من الدخول دون أسباب جنائية، وهذا سر موقف وزيرة العدل الامريكية ، لقد رفضت تنفيذ القرار لأنه غير قانوني ، وهي ترى من طرف خفي أن وصول ترامب بأفكاره العنصرية إلى سدة الرئاسة يُعّد بحد ذاته مضاد لمبادئ الدستور، كما أن مؤسسات الأمن القومي لم يتم استشارتها في هذا القرار، ولكن كتبه دبلوماسي شاب يعمل مستشارا للرئيس هو ستيفن ميللر، وقد صدر قرار آخر يخفف قليلا من شدة القرار السابق، ويسمح بدخول حملة التأشيرات ومن لديهم اعمال تستلزم وجودهم في أمريكا وسوف تقوم وكالات الأمن القومي بالتحقق منهم، كما تم السماح لحملة البطاقات الخضراء الذين قضوا سنوات في أمريكا بشكل قانوني، لعل هذا يصلح جزءا من العشوائية التي صاحبت الأيام الأولى من عهد ترامب.
الملاحظة الثانية هي الخوف من تهمة التعصب الديني: وهي تهمة تنتمي للقرون الوسطى مثلما ينتمي قرار ترامب، لذلك لم يقم المسلمون فقط بالاعتراض، ولكن الكثير من كنائس أمريكا شاركت في ذلك، ارتفعت في قاعاتها أصوات الآذان وتليت آيات القرآن، سادت لحظة من التسامح الديني التي يتوق إليها الجميع، خرج الشيوخ والقساوسة، يعترضون رافضين اقصاء أي دين، لأن الدين هو علاقة بالغة الخصوصية بين الإنسان والسماء.
الملاحظة الثالثة هي اقتصادية بالضرورة: بعد صدور قرارات الحظر امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالاحتجاجات، تلقى موقع جوجل أكثر من الفي احتجاج في غضون دقائق، ولكن الاحتجاج الأكبر كان في مقر الشركة الرئيسي في ماونت فيو، كل المديرين التنفيذين في الشركة وهم جميعا من أصول مهاجرين اعلنوا اعتراضهم على الفور، متحدث جوجل الرسمي مروان فواز مهاجر من اصل لبناني، ساندرا بيشي الذي يقود منتجات الشركة ، مهاجر من الهند، وسيرجي برين احد مؤسسي الشركة مهاجر من روسيا، انضمام هؤلاء المديرون التنفذيون اضفى طابعا خاصا على الاحتجاجات لأنها تأتي من مؤسسات اقتصادية هامة ولا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة.
بقول برين الذي كان واحدا من أوائل المعارضين، وقاد مظاهرة حاشدة في مطار سان فرانسسيكو: لقد جئت إلى أمريكا وأنا في السادسة من عمري، كنت قادما من الاتحاد السوفيتي العدو الأكبر لأمريكا في ذلك الوقت، ولعله مازال كذلك، وكانت المخاوف من وجود الأجانب كبيرة بسبب التجسس وسرقة المعلومات النووية، وقد حدثت بالفعل الكثير من حوادث التجسس، كان هذا اكبر بكثير من خطر الإرهاب الحالي، ومع ذلك لم يتم الحظر على مواطنيها، ولو طبق هذا الحظر لما كنت هنا اليوم، ولا أنجزت أي شيء، ولما كانت هناك جوجل.
الاعتراضات الاقتصادية على قرار ترامب جاء من مختلف الاتجاهات، اعتراضات من الجامعات ومراكز التكنولوجيا، بحجة أن توابع هذا القرار يمكن أن يحدث جفافا في العقول، وعندما يمتد الحظر على المزيد من الدول كما يهدد ترامب سوف تفقد أمريكا قدرتها على التجديد على المدى البعيد، فالذين اضافوا إليها الجديد جاؤوا أيضا من الدول المحظورة، ستيف جوب مؤسس شركة آبل من أصول سورية، ومؤسس موقع أي باي الذي يسهل عمليات البيع واشراء من أصول إيرانية، ويخشى رؤساء الجامعات أن العلماء الصغار من أصول اجنبية والباحثين الذين كانوا يملاؤون معامل الأبحاث سوف يتجهون إلى مكان آخر، وكذلك هناك خشية على مشروع التأمين الصحي من أن بفقد جهود الأطباء والممرضات الأجانب، بل ان صحيفة وول ستريت قد نشرت عنوانا بارزا ان مدن الوسط الغربي في حاجة للمزيد من المهاجرين لا الاقتصاد الأمريكي في حاجة إلى تجديد نفسه من خلال جهودهم.
لكن قرار ترامب ما يزال ساريا.