بقلم: علي عبيد الهاملي
تستهويني، وأظن أنها تستهوي كثيرين غيري، مشاهدة القنوات التلفزيونية التي تعتمد على الأرشيف القديم من برامجها، مثل «دبي زمان» الإماراتية، و»القرين» الكويتية، و»ماسبيرو زمان» المصرية، رغم أنها تعرض برامج مضى على إنتاج بعضها أكثر من نصف قرن. وأكثر ما يجذبني ويجذب المحبين لمتابعة هذه القنوات، قدم هذه البرامج وأساليب مقدميها، ونوعية الضيوف الذين تستضيفهم هذه البرامج، والشكل الإخراجي الذي يتم من خلاله تنفيذها، وهو شكل يبدو بدائيا إذا ما تمت مقارنته بالبرامج التلفزيونية التي نشاهدها هذه الأيام، مع الوضع في الاعتبار التقنيات الحديثة المستخدمة في استوديوهات اليوم، وما أحدثته من فارق لا يمكن معه مقارنة شكل برامج زمان مع شكل برامج اليوم، ويبقى الفارق الأهم في المضمون بين برامج زمان وبرامج هذه الأيام.
من البرامج التي شاهدتها على قناة «ماسبيرو زمان» برنامج اسمه «كاتب وقصة». نقرأ في تتر البرنامج أنه من سيناريو وحوار رأفت الخياط، وتقديم سميرة الكيلاني، والمقدمة الموسيقية من إهداء الفنان عبدالعزيز محمود، والإخراج ليحي العلمي، وتسبق هذا كله عبارة «التلفزيون العربي يقدم»، وهو الاسم الذي كان يُطلق على التلفزيون المصري في بداية انطلاقته. كان ضيف الحلقة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي كان على مشارف العام الأول بعد الثمانين من عمره وقت تسجيل الحلقة، أي قبل أربع سنوات من وفاته، وموضوع الحلقة كتابه الشهير «المعذبون في الأرض». ضيف على هذا المستوى من العلم والثقافة والمكانة، وكتاب على هذا القدر من الأهمية، يجعلان الحوار ممتعا ومفيدا دون شك، رغم تواضع الإخراج الذي جعل مقدمة البرنامج تجلس بجوار الضيف، كأنهما مسافران في طائرة، يجلسان على كرسيين متجاورين في الدرجة السياحية.
كان الدكتور طه حسين متألقا كعادته، وضيفا على درجة كبيرة من الذكاء والظرف والتواضع، وليس أدل على ذلك من إجابته على سؤال المذيعة عندما قالت له:
• دكتور طه.. في حياة كل عظيم مثلٌ تأثر به، ومفكرٌ دله على قيمة الأشياء، ومعلمٌ هيأ له الطريق. هل أطمع أن أعرف جانبا منها؟
فرد عليها قائلا:
– أظن لا تطمعي يا سيدتي، لأني لست عظيما.
ثم مضى يذكر الذين تأثر بهم من زعماء الثقافة القديمة واللاتينية، والثقافة الأوربية، والثقافة العربية. وعندما سألته المذيعة قائلة:
• في بداية حياتك كانت هناك رسالة محددة ناضلت من أجل تحقيقها. بعد بلوغك المرحلة الماسية من حياتك، هل تشعر أنك أديت الرسالة كاملة، وما هو أعظم شئ تفخر بأنك حققته؟
رد قائلا: – لم أكن أتمنى في حياتي إلا أن أكون أديبا يقرؤه الناس ويسمعون له إذا قال. وأعترف بأن الناس كانوا أكرم مما كنت أظن، فقد سمعوني ورضوا، وقرؤوني ورضوا، وإن سخط عليّ كثير منهم، مع أني أعترف مخلصا بأني لم أرض عن نفسي في يوم من الأيام.
ثم سألته المذيعة عن رأيه، كرائد للأدب العربي، في أدب الأجيال الجديدة، من كُتّاب القصة والنقاد والشعراء، فأجابها قائلا:
– أولا هم لا يعترفون بأني رائد للأدب العربي، كما أني لا أعترف بهذا.
ثم مضى يقول رأيه في بعض الكتاب، الذين كانوا في بداية الطريق آنذاك، فأبدى إعجابه بكتابات نجيب محفوظ وثروت أباظة ويوسف السباعي ويوسف إدريس.
هذا التواضع الذي أبداه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، خلال المقابلة، وهو الذي نعرف جميعا مكانته في الحركة الأدبية الحديثة، حيث يصنفه النقاد واحدا من أبرز دعاة حركة التنوير في العصر الحديث، يجعلنا نندهش من هؤلاء الذين لم يحققوا ربع ما حققه عميد الأدب العربي من مكانة علمية وأدبية، ومع هذا تراهم يمشون على الأرض مثل الطواويس، ويتحدثون أمام الكاميرات والمايكرفونات بغرور مبالغ فيه، وكأن الواحد منهم قد قدم للمكتبة العربية عشرات المجلدات، ورفد رفوفها بمئات الكتب والمطبوعات.
إنه تواضع العظماء والعلماء، الذين يعرفون قدرهم، لكنهم ينكرون ذواتهم عندما تكون هذه الذوات هي محور الحديث. لذلك نعتقد أن هذه القنوات التي تقدم لنا مادة غنية من الأرشيف، لا تنشّط ذاكرتنا فقط، ولكنها تعيدنا إلى الزمن الجميل، بعظمائه من العلماء والأدباء والكتاب والفنانين الذين قلّ أن يجود الزمان بمثلهم، لكنهم باقون في الذاكرة بأعمالهم ومواقفهم وأحاديثهم المحفوظة في أرشيف إذاعاتنا وقنواتنا التلفزيونية.