بقلم: د. حسين عبد البصير
أول موظف في التاريخ
تعتبر الوظيفة في مصر الفرعونية من أهم الأشياء التي كان يحرص المصريون القدماء عليها. وكان يتم تعليم الأبناء كي يحصلوا على وظائف في الدولة تكفل لهم التميز والثراء والوجاهة في المجتمع. وكان الأب يعد ابنه كي يخلفه في منصبه بعد وفاته. وكان يطلب من الملك أن يوافق على تولي ابنه منصبه من بعده.
إن الدولة في مصر قديمة قدم الأزل. وكان الموظفون في مصر الفرعونية هم الأساس الذي قامت عليه الدولة في مصر قديمًا. وكان الموظفون يتكونون من الكهنة ورجال الدين والفنانين والأطباء والوزراء والموظفين المدنيين والعسكريين بدرجاتهم الوظيفية والموظفين الإداريين كالمشرفين على القصر الملكي أو الحدود المصرية أو بلاد النوبة، وتنوعت درجات وأطياف الموظفين؛ فكان من بينهم موظفون من كبار رجال الدولة وموظفون من درجات وطبقات وظيفية أدنى منهم، غير أن جميعهم انتمى إلى صفوة المجتمع المصري القديم.
واستهل الموظفون عملوا في الدولة منذ بدايات التاريخ الفرعوني منذ عصر الأسرة الأولى. ونجد مقابرهم في مناطق سقارة وحلوان والأقصر والجيزة وغيرها. وركز الموظفون في مقابرهم وأعمالهم الفنية وسيرهم الذاتية على أهم معالم مسيرة أولئك المسئولين الوظيفية والمحطات البارزة فى حياتهم. وكتب عدد كبير منهم سيرهم الذاتية كي يسجل أعماله ومفاخره من خلالها. وجذور السير عميقة في التاريخ المصري القديم، ودون شك تعود إلى لوحات الأسرة الأولى التي حمل أصحابها العديد من الألقاب مرورًا بلوحات الطبيب «حسي رع» الخشبية من الأسرة الثالثة ووصولاً إلى سيرة «متن» فى بداية الأسرة الرابعة وما بعدها. وفي هذه الأعمال النصية، يصف الموظفون خبراتهم التي مروا بها في حياتهم خصوصًا الوظيفية. وبدأت السير تقدم حياة أصحابها الوظيفية بتفاصيل عديدة مثل عهود الملوك الذين خدموهم ويطلق عليها «سير الوظيفة».
ولدينا موظفون معروفون منذ بدايات التاريخ المصري القديم أمثال الوزير «حم كا» بمعنى «خادم القرين» الذي عاش في عهد الملك «دن» من ملوك عصر الأسرة الأولى. ويعد من أقدم وأشهر الموظفين في مصر من عصر الأسرات المبكر. وقد كشفنا في سقارة عن مقبرة لهذا الموظف، وبها أقراص من الحجر والنحاس والخشب والعاج ومحلاة بمناظر بديعة وبعضها مطعم بقطع من المرمر.
وهناك أيضًا الكاهن «حتب دي إف» بمعنى «القربان الذي يقدمه» من عصر الأسرات المبكرة، وله تمثال صغير وجميل يمثله في وضع تعبدي جاثيًا على ركبتيه، وهو موجود حاليًا في المتحف المصري في التحرير. وينسب هذا التمثال إلى عصر الأسرة الثالثة بالرغم من وجود أسماء الملوك الثلاثة الأوائل من الأسرة الثانية مكتوبة على ظهره. والتمثال يمثل درجة من درجات الفن المتقدم بالنسبة للأسرتين الأولى والثانية، ولكن في نفس الوقت يمثل مرحلة مبكرة بالنسبة لفن النحت في عصر الأسرتين الثالثة والرابعة.
وهناك أيضًا كبير أطباء الأسنان الطبيب الأشهر «حسي رع» بمعنى «الممدوح من رع» من عصر الأسرة الثالثة من عهد الملك زوسر، والذي كان وزيرًا في عهده. وعثرنا على مقبرته الكبيرة المزينة، وبها لوحات بديعة مصنوعة من خشب الأرز المستورد من لبنان. كما تدل قطع الأثاث الفاخرة الموجودة في مقبرته على أنه كان شخصية كبيرة وفي رتبة عالية ويحظى بثراء كبير. وتم تصوير «حسي رع» على هذه اللوحات وبجانبه اسمه ووظيفته بالكتابة الهيروغليفية. وهو مصور في الوضع واقفًا ويرتدي الملابس الرسمية وحاملاً صولجانًا، أو جالسًا وأمامه منضدة عليها قرابين. واللوحات تبين تصوره من الجانب، وتظهر تفاصيله كاملة. وهو يعتبر أول طبيب يذكر اسمه في التاريخ؛ إذ يذكر النص على اللوحة الخشبية «كبير أطباء الأسنان “. وحمل «حسي رع» يحمل لقب «مندوب الملك» ولقب «كبير العاصمة بوتو» التي كانت من المراكز المهمة في الدلتا المصرية.
وهناك الموظف المعروف «دبحن» من عهد الملك منكاورع من عصر الأسرة الرابعة. وفي مقبرة «دبحن» في هضبة الجيزة بالقرب من هرم الملك منكاورع نص سيرة ذاتية يذكر فيه «دبحن» وصف زيارة الملك منكاورع إلى موقع البناء لهرمه المسمى «إلهيٌّ هو منكاورع»، ورافق الملك قائد القوات البحرية وكاهنان كبيران للإله بتاح، وكذلك الفضل الملكي الذي تكرمه به الملك عليه. ويوضح هذا النص الصورة البشرية الخاصة بالملك منكاورع في نهاية عصر الأسرة الرابعة الفرعونية. وتعد سيرة «دبحن» الذاتية من أوائل السيرة الذاتية التي تقدم لنا نوعًا من الفن القصصي حيث يخبرنا «دبحن» صاحب السيرة عن كثير من الأمور والأحداث عن نفسه.
لقد ألقت آثار وأعمال وسير الموظفين في مصر الفرعونية –بشكل عفوي- بأضواء كاشفة على التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر القديمة منذ أقدم العصور إلى نهايات التاريخ الفرعوني.
الرقص في مصر الفرعونية
خلفت مصر القديمة تراثًا أدبيًا غنيًا من مختلف الفترات التي مرت عليها، إلا أن المصادر الأدبية التي تناولت الرقص في مصر القديمة نادرة إلى حد كبير حيث تراءى للمصريين القدماء أنه ليس من الضروري أن يعبر كتابة عن شيء مألوف بالنسبة لهم. وتلاحظ أنه وجدت العديد من الكلمات في اللغة المصرية القديمة التي حملت معنى «أن يرقص» أبرزها كلمة «إبا». كذلك فقد ظهرت مصطلحات أخرى تصف رقصات أو حركات بعينها، إلا أنها تأتي في سياقات تروي القليل أو حتى تصف بشكل نادر طبيعة الرقصات التي كانت تؤدى بها.
وكان الرقص أمرًا متعارفًا عليه في الثقافة الشعبية في مصر القديمة، لذا ندر وصفه. ويوجد الكثير من العقبات التي تقابل المرء للوقوف على الغرض من الرقص والسياقات التي كان يتم الرقص خلالها في مصر القديمة خاصة فيما يخص إعادة تمثيل أي من الحركات التي كانت تؤدى. وفي الغالب فإن ما هو متوفر من رسوم تخص الراقصين من مصر القديمة ثنائية الأبعاد؛ ومصدرها جدران المعابد والمقابر أو حتى المناظر المرسومة على قطع الأوستراكا أو البردي. وقد ارتبطت هذه الرسوم بتقاليد الفن المصري القديم فلم توفر مساحة كافية من المرونة لإظهار مدى المرونة التي يتم تأديتها أثناء الرقص. كذلك فقد كانت هناك مسألة أخرى وهي أن المناظر المصورة كانت لم يكن الغرض منها التسجيل بهدف إعلام المشاهد بالرقصات أو طبيعتها ولكن كان الهدف منها أغراض أبعد مثل التعبير عن طقوس عبادة للإله، أو كمراسم لتسهيل عملية المرور للعالم الآخر.
كذلك فيجب الأخذ في الاعتبار أن الحضارة المصرية القديمة استمرت لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وكونها كانت من الحضارات المحافظة فيجب الإشارة إلى فكرة أنه طرأت تغييرات وتطورات للرقص على مدار هذه الحضارة. وتعتبر أقدم مناظر للرقص في مصر القديمة تلك التي ظهرت على القطع الصخرية والأواني الفخارية من عصر ما قبل الأسرات. كذلك فقد مناظر للرقص من عصر الدولة القديمة تظهر مغنيين وراقصين في مشهد جنائزي عند مدخل أحد المقابر. أما في عصر الدولة الوسطى فلمناظر المصورة في مقابر بني حسن ودير الجبراوي تظهر حركات تبدو أكروباتية أكثر من كونها حركات رقص. أما فيما يخص الآلهة فقد ارتبط بعضهم بالرقص أمثال الإلهة حتحور وابنها حورس الصغير «إيحي» فقد ارتبطا بالموسيقى والرقص. وقد ظهر الراقصون يحملون أدوات موسيقية مخصصة ومقدسة للإلهة حتحور. كذلك فقد ارتبط الإله بس بالرقص، وقد ظهر يقوم بالرقص ويعزف آلات موسيقية. وربما كان هذا إشارة واضحة للمشاهد التي صورت الأقزام يقومون بالرقص.
وعلى الرغم من أن أغلبية المناظر التي تبقت الخاصة بالرقص من مصر القديمة تعبر عن طقوس دينية أو شعائر جنائزية، إلا أن هذا ليس دليل قاطع بأنه أقتصر فقط على هذه الشعائر بل بالضرورة كان له وجود أساسي في الحياة اليومية للمصري القديم. فقد ظهرت في عدد من المناظر الراقصات في المآدب يرقصن على أنغام العازفين. وقد ظهرت الراقصات يرتدين القلائد والأساور والأقراط، كذلك فقد ظهرن واضعين مكحلات الأعين ويبدو من تعبيرات وجوههم أنهم محترفات.
عطر كليوباترا
أعلن عدد من علماء الآثار أنهم اكتشفوا عطرًا من خلال حفائر البعثة الأثرية لجامعة هاواي الأمريكية في مدينة منديس الأثرية في منطقة تمي الأمديد في محافظة الدقهلية، وأنهم نجحوا في إعادة تركيبه في معامل جامعة أمريكية. وقاموا بتصنيع العطر من خلاصات نباتات وأعشاب أحضروها من نفس المناطق التي جاءت منها مواد صناعة العطور في مصر القديمة. ومن الغريب أنهم ادعوا أن هذا العطر قد استخدمت الملكة البطلمية الشهيرة الملكة كليوباترا السابعة!
ومن المعروف أن قوام العطور في العالم القديم كان أكثر كثافة بكثير مما يُستخدم الآن؛ إذ كان يشبه إلى حد كبير قوام الكريمات والمراهم الحالية. ومن الجدير بالذكر أن هناك معرضًا أثريًا في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي افتتحت الجمعية الجغرافية الأمريكية بعنوان «ملكات مصر»، وتشمل معروضاته قارورات هذا العطر المعاد إنتاجه. وطبعًا يرجع ذلك الادعاء بأن كليوباترا قد استخدمت هذا العطر إلى أن الأمر يعد مثيرًا أن يشم الإنسان العطر الذي استخدمته هذه الملكة الجميلة الساحرة كليوباترا والذي تعطرت به وأن أحدًا لم يشم هذ العطر منذ أكثر من ألفي سنة. ودون شك فإن كليوباترا كانت على دراية كبيرة بالعطور، وكانت تُستخدم العطور الأكثر قيمة وشهرة في العالم في عهدها الشهير تاريخيًا وحضاريًا.
وهذا الكلام ليس له أساس من الصحة وينافي الحقيقة العلمية لأسباب عدة. فكيف عرف هؤلاء العلماء أن الملكة كليوباترا استخدمت هذا العطر؟ فلا توجد حقيقة وحيدة تربط هذا العطر المكتشف في هذا الجزء من الدلتا بهذه الملكة الساحرة.وهذا الجزء من الدلتا وأعني مدينة منديس، في موقع تمي الأمديد، عاصمة الأسرة التاسعة والعشرين الفرعونية، كان بعيدًا جدًا عن بلاط الملكة كليوباترا في مدينة الإسكندرية على شاطئ البحر المتوسط.
ومن المعروف أن كليوباترا كانت نهايتها بعد معركة أكتيوم البحرية التي كانت بعيدة تمامًا عن هذا الموقع الذي تم في اكتشاف بقايا العطر من قبل هذه البعثة. ومن المعروف أن مدينة الإسكندرية كانت عاصمة الملكة كليوباترا وكان بها العديد من رجال العطور ومصانع العطور التي كانت تتعامل مع البلاط الملكي مباشرة في الإسكندرية.
ولا يوجد أي دليل أثري واحد يوضح ارتباط كليوباترا بالمكان ولا ارتباط هذا العطر بها. والحقيقة إن البعض يحاول أن يحقق شهرة وفرقعة من وراء أي اكتشاف يقوم به وينسبه لأية شخصية تاريخية مشهورة مثل كليوباترا السابعة الملكة البطلمية الشهيرة أو إلى الإسكندر الأكبر الفاتح العظيم في العالم الكلاسيكي. وبالفعل قد تم تقديم العديد من الأعمال الرصينة التي تناولت حياة كليوباترا بشكل صحيح.
ومن المعروف ان المصريين القدماء استخدموا العطور. وعثرنا على العديد منها وكذلك على الورود مثل الورود التي وجدت في مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون والتي تركت فوق تابوته أرملته الشابة عنخ إس إن آمون. إذن فمعرفة العطور أمر ليس غريبًا على المصريين القدماء، لكن ربط هذا العطر تحديدًا بكليوباترا السابعة الساحرة الجميلة هو الأمر الغريب والمخالف للعلم والمنطق.
واتباع المنهجي العلمي في نشر الأخبار عن الاكتشافات الأثرية الحديثة ضرورة، وذكر الحقيقة العلمية لا الإثارة أو الفرقعة هو المطلوب من علماء الآثار. وكليوباترا بريئة من هذا العطر المنديسي.