بقلم: د. حسين عبد البصير
انطلقت أسطورة الملك «توت» تغزو أرجاء العالم كله، وأصبح الفرعون الشاب الذي لم يجلس على العرش أكثر من تسع سنوات، بين عشية وضحاها، أشهر ملك في تاريخ الإنسانية وكتب لاسمه الخلود. والآن آثار توت عنخ آمون تزين باريس بعد غياب 52 عامًا، فقد حل معرض آثار الفرعون الذهبي الملك الشاب توت عنخ آمون في العاصمة الفرنسية في شهر مارس الحالي بعد غياب نحو 52 عامًا عن العاصمة الفرنسية. ومن خلال هذا المعرض، الذي ينتظره الجميع في فرنسا والدول المجاورة بفارغ صبر، يتم عرض نحو مائة وخمسين قطعة أثرية من كنوز مقبرة الفرعون الذهبي الملك الشاب توت عنخ آمون. ويقام المعرض تحت عنوان «كنز الفرعون» فى الفترة من 23 مارس إلى 15 سبتمبر 2019 في قاعة «جراند هال دو لا فيليت»، في العاصمة الفرنسية، والتي تم فيها عرض آثار الفرعون الذهبي تحت عنوان «توت عنخ آمون وزمنه» في قصر «لوبوتي باليه»، والذي زاره أكثر من 1.2 مليون زائر في عام 1967. وشكل المعرض حدثًا مهمًا آنذاك، وفيه تم عرض نحو 45 قطعة من كنوز الفرعون الذهبي الثمينة. وتجمع الفرنسيون في طوابير طويلة لزيارة المعرض الكبير لاكتشاف كنوز الفرعون الذهبي النادرة؛ وبناءً عليه، تم تمديد المعرض لأشهر عديدة تالية.
وتمثل باريس المحطة الثانية لهذا المعرض (الذي بدأ في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية) من بين عشر مدن كبرى حول العالم. وتقيم هذا المعرض وزارة الآثار المصرية. ويضم المعرض عددًا من القطع الجميلة من الحلى الذهبية والنقوش والتماثيل والأثاث الجنائزي من كنوز الملك توت عنخ آمون. وكان عالم الآثار البريطاني الشهير هاورد كارتر قد اكتشف مقبرة الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون كاملة في وادي الملوك في البر الغربي لمدينة الأقصر في صباح الرابع من نوفمبر عام 1922 ليكون بذلك وبحق أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين في العالم كله.
وفي الرابع من شهر نوفمبر عام 1922، كان عالم الآثار الإنجليزي «هوارد كارتر» على موعد الرمال المصرية لتمن عليه وتكشف له عن واحد من أهم أسرارها الدفينة واستطاع أن يحقق حلم حياته بعد طول عناء وتعب بالكشف عن مقبرة «توت عنخ آمون» ذلك الأثر الفريد من نوعه الذي أذهل العالم منذ وقت اكتشافه إلى هذه اللحظة، والذي طغى على كل الاكتشافات الأثرية الأخرى في العالم أجمع، وأصبح أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين دون أدنى مبالغة.
ولقد ثبت من دراسة مقتنيات مقبرة الملك «توت» التي أبهرت العالم أجمع أنها لم تكن تخص وحده، بل كان أغلبها مقتنيات سلفيه الملكين: والده «أخناتون» العظيم وشقيقه «سمنخ كارع» وتم تجميعها على عجل لإتمام مراسم دفن الملك الشاب الذي راح ضحية مؤامرة حيكت ضده من قبل أعدائه القصر الملكى وكبار رجال البلاط آنذاك أمثال الكاهن الحكيم «آي» وقائد الجيش «حور محب». ولقد ألهبت هذه المقتنيات والطريقة التي اكتشف بها خيال الباحثين والمولعين بالآثار وأساطيرها على السواء، فنسجوا العديد من القصص والحكايات حول حياة الملك ووفاته ومن هنا نشأت أسطورة «توت».
وتعتبر مقبرة الملك «توت عنخ آمون» هي المقبرة الملكية الوحيدة التي وصلت إلى أيدينا كاملة إلى الآن. فبعد وفاة الملك «توت» بمائتي عام قام عمال الملك «رمسيس السادس» من ملوك الأسرة السادسة والعشرين، دون قصد، برمي الأحجار والرمال المستخرجة من حفر مقبرته فوق مدخل مقبرة «توت عنخ آمون» بل شيدوا أكواخهم فوق هذا الرديم. ولولا هذه المصادفة العجيبة لما نجحت مقبرة الفرعون الشاب من أيدي لصوص المقابر من كل زمان، ولما وجدها «كارتر» في صبيحة الرابع من نوفمبر عام 1922 بعد بحث مضنٍ دام خمس سنوات طوال.
وفي عام 1917م حصل اللورد «هر برت إيرل كار نافون الخامس» (1866- 1923) على موافقة مصلحة الآثار المصرية بالتنقيب في وادي الملوك. وكان حلم «هوارد كارتر» (1873- 1939) هو العثور على مقبرة الفرعون الصغير «توت عنخ آمون» بين مقابر وادي الملوك. فطلب اللورد «كارنافون» من «كارتر» أن يجري الحفائر لحسابه في الوادي. وكان «كارت» يتمتع بسمعة أثرية كبيرة فقد سبق له اكتشاف مقبرة الملك «تحتمس الرابع» عام 1903 بمساعدة الأمريكي «تيودور ديفيز».
وبدأت الحفائر في العام نفسه، ومضى دون أي نتائج مشجعة. وتذكر «كارتر» كل ما قاله أسلافه علماء الآثار السابقون أمثال «جان- فرانسو شامبليون» و«جاستون ماسبيرو» و«جيوفانى بلزونى» من أن الوادي قد لفظ كل ما بداخله.
لم ييأس وواصل العمل. فقد كانت ثقة «كارنافون» تدفعه حبه وصبره يشدان من أزره الذي لا يلين. واستمر الحفر خمس سنوات أخرى دون نتائج مرجوة. ومر صيف عام 1922 كان إيمان «كارتر» كبيرًا بأنه سوف يعثر على مقبرة الملك الصغير ذات يوم. وبدأ اللورد «كارنافون» يقنط ويهمل الأمر كلية ويدعه جانبًا. فطلب منه «كارتر» منه أن يمنحه فرصة أخيرة: هذا الموسم الذي سيبدأ في نوفمبر 1922م. واستمر الحفر في مساحة صغيرة مثلثة الشكل أمام مقبرة الملك «رمسيس السادس» لم يسبق الحفر فيها. لقد كان «كارتر» في مأزق حقيقي إن لم يعثر هذا الموسم الأخير على هذه المقبرة، فسوف يرحل اللورد إلى إنجلترا ويفقد التمويل المادي وتذهب جهوده المضنية لسنوات طوال وأحلامه أدراج الرياح.
لم يكن «كارتر» يعلم أن صباح الرابع من نوفمبر هو يوم مجده الحقيقي. يقول «كارتر» في كتابه الممتع عن مقبرة الملك «توت عنخ آمون» في معرض حديث عن ظروف الاكتشاف: «هذا هو بالتقريب الموسم الأخير لنا في هذا الوادي بعد تنقيب دام ست مواسم كاملة. وقف الحفارون في الموسم الماضي عند الركن الشمالي الشرقي من مقبرة الملك رمسيس السادس. وبدأت هذا الموسم بالحفر في هذا الجزء متجها نحو الجنوب. كان في هذه المساحة عدد من الأكواخ البسيطة التي استعملها كمساكن العمال الذين كانوا يعملون في مقبرة الملك رمسيس السادس. واستمر الحفر حتى اكتشف أحد العمال درجة منقورة في الصخر تحت أحد الأكواخ. وبعد فترة بسيطة من العمل، وصلنا إلى مدخل منحوت في الصخر بعد 13 قدما أسفل مهبط المقبرة. كانت الشكوك وراءه بالمرصاد من كثرة المحاولات الفاشلة، فربما كانت مقبرة لم تتم بعد، أو أنها لم تستخدم، وإن استخدمت، فربما نهبت في الأزمان الغابرة، أو يحتمل أنها مقبرة لم تمس أو تنهب بعد. كان في يوم 4 نوفمبر 1922».
ثم أرسل «كارتر» برقية سريعة إلى اللورد «كارنافون» يقول فيها: «أخيرًا، اكتشاف هائل في الوادى، مقبرة كاملة بأختامها، كل شيء مغلق لحين وصولك. تهانينا».
وهكذا سقطت مزاعم علماء الآثار أمثال: «بلزونى» و«ماسبيرو» و«شامبليون» ممن عملوا في وادى الملوك، وزعموا أنه لم يعد هناك شيء في بطنه، وهكذا تأكد ويتأكد للعالم أن الرمال المصرية لم تبح بكل أسرارها بعد ولا تزال تحتفظ بالكثير من الاثار الرائعة في بطنها لأجيال عديدة قادمة حتى تظل مثيرة للدهشة إلى أقصى درجة ممكنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم توالت بعد ذلك مراحل الكشف الأخرى إلى أن تم نقل محتويات المقبرة إلى المتحف المصري في القاهرة لتظل شاهدة على حضارة لم ولن تندثر أبدًا. وأردد مع «كارتر» قوله: «ما زال الغموض فى حياة الملك توت عنخ آمون يلقى بظلاله علينا، فعلى الرغم من أن تلك الظلال تنقشع أحيانًا، فإن الظلمة لا تختفي من الأفق أبدًا». وهذا هو شأن من شؤون الحضارة المصرية القديمة العريقة في الحقيقة.
ولعله من حسن الطالع أن يقام هذا معرض توت عنخ آمون في إطار الاقتراب من الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لاكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي، والتي سوف تكون في 4 نوفمبر 2022؛ لذا ترعى مصر هذا المعرض الفريد فى إطار جولة عالمية بين بلدان العالم لآثار الفرعون الذهبي وتحفه الفنية التي لا مثيل لها. وسوف يحقق هذا المعرض زيادة في عدد السائحين لمصر لاكتشاف آثارها الفرعونية واليونانية ــ الرومانية والقبطية والإسلامية الفريدة على أرض مصر نفسها.
ومن الجدير بالذكر أن متحف اللوفر يضم مجموعة كبيرة من الآثار المصرية القديمة، غير أنه لا توجد أية آثار فى العالم تتفوق على الآثار الساحرة للفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون. وفي 1976، تم تنظيم معرض آخر عن آثار نجم الأرض الفرعون الخالد الملك رمسيس الثاني في قصر «جران باليه» في باريس ما أتاح للفرنسيين وجيرانهم فرصة أخرى للتعرف على قطع جديدة وصفحات عظيمة من التاريخ الفرعوني العريق. وسوف تساهم العوائد المالية من هذا المعرض في دعم واستكمال المشروعات الأثرية الكبرى في مصر خصوصًا مشروع المتحف الكبير الذي يجري إنشاؤه حاليًا على بُعد كيلومترين والنصف من أهرام الجيزة الخالدة.
ومنذ فترة قام السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي بزيارة مشروع المتحف الكبير التي تعد زيارة تاريخية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وتدل على مدى الاهتمام الكبير الذي يوليه الرئيس عبدالفتاح السيسي لمصر وآثارها، وتؤكد على مدى عمق الوعى الحضاري والحس الثقافي والاهتمام بمستقبل مصر الأثرى والثقافي والسياحي لدى السيد الرئيس، وتؤكد أن سيادته يعمل دومًا من أجل أن تحتل مصر المكانة التي تليق بها بين جميع دول العالم.
إن المتحف المصري الكبير هو بحق هدية مصر للعالم فى القرن الواحد والعشرين، ويؤكد على أن مصر دولة عظمى ثقافيًا وأثريًا وحضاريًا، وأنها ما تزال قادرة على أن تقدم للعالم العطاء والإبداع والإبهار من خلال مشروعات ثقافية عملاقة، وأن مصر هي جاذبة أنظار العالم لها دومًا. ومشروع المتحف المصري الكبير هو مشروع مصر القومي مثل إقامة هرم خوفو فى مصر الفرعونية وقناة السويس فى عهد الخديو إسماعيل فى مصر الحديثة وبناء السد العالي فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر فى تاريخ مصر المعاصر. ومن الجدير بالذكر أن المتحف المصري الكبير تم وضع حجر الأساس لإنشائه في فبراير 2002 ليكون صرحًا ثقافيًا ومركزًا عالميًا لتواصل الحضارات والثقافات. وسوف يضم المتحف أهم وأندر آثار مصر المكتشفة عبر العصور من خلال عرض متحفي مبهر على أحدث التقنيات العالمية فى مجال إقامة المتاحف والعرض المتحفي على مستوى العالم ليكون متحفا بالمفهوم الحديث للمتاحف، وليس كما كان المتحف مخزنا للآثار فقط. وتعد درة المتحف المصري الكبير كنوز وآثار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، والتي تقدر بأكثر من خمسة آلاف قطعة، وتم نقل عدد كبير منها من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف الكبير لتعرض فى مساحة تمثل سبعة أضعاف مساحة عرضها في المتحف المصري بميدان التحرير. كما تم نقل عدد كبير من أخشاب مركب الشمس من جنوب هرم خوفو الأكبر بالجيزة إلى المتحف الجديد ليتم تجميعها وعرضها فى المتحف الكبير فى قاعة تخصها وحدها. وفى 25 يناير 2018 تم نقل تمثال الملك رمسيس الثاني، والذي يبلغ وزنه نحو 83 طنًا، من أرض مشروع المتحف، التي كان فيها منذ نقله من ميدان رمسيس في وسط القاهرة في 2006، إلى مقدمة المتحف كي يكون في استقبال الزائرين عند زيارة المتحف عند افتتاحه. وتم ربط معامل الترميم ومخازن الآثار بجسم مبنى المتحف بثلاثة أنفاق تحت الأرض. وسوف يضم المتحف مجمعا للمتاحف النوعية منها متحف للأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة لتربية النشء على حب الآثار والحفاظ على كنوز مصر العظيمة. وكذلك سوف يضم المتحف منطقة ترفيهية على مساحة كبيرة تشمل عددًا من الحدائق والمطاعم والخدمات والأماكن الترفيهية والمرافق العامة.
إن المرحلة الأخيرة من المشروع، والتي تتضمن مبنى المتحف وملحقاته قد بدأت في عام 2012، على وشك أن تنتهي في عام 2020.
والحقيقة فإن العالم كله يترقب وينتظر هذا الحدث الثقافي الأعظم في الوقت الحالي، وأعني افتتاح المتحف المصري الكبير، افتتاح القرن، حيث يمكث توت عنخ آمون في بيته الجديد ناظرًا لآثار وأهرام أجداده العظام: الملوك خوفو وخفرع ومنكاورع.
ولا يسعني إلا أن أتوجه بعميق الشكر والتقدير لكل الجهود العظيمة والمخلصة التي تقوم بها وزارة الآثار والهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة وكل العاملين بمشروع المتحف المصري الكبير لإنهاء المشروع وخروجه للنور على أكمل وجه كي يعبر عن مصر صاحبة العطاء الحضاري الفريد عبر العصور والأزمان، وكي يكون المتحف المصري الكبير بحق البيت الجديد للفرعون الذهبي الملك الأسطورة الفرعون توت عنخ آمون.
وفي النهاية، أقول إن مصر العظيمة هي دومًا معلمة الحضارات وصانعة المعجزات وملهمة الثقافات.