بقلم: كيندة الجيوش
وحدث انه خلال الحرب الدولية الأولى على العراق بقيادة الولايات المتحدة في أوائل التسعينات من القرن الماضي انه كان هناك الكثير من القلاقل والقلق والمعارضة بين أوساط المثقفين والاُدباء السوريين. ومن بين هؤلاء الذين عارضوا مشاركة سوريا في التحالف الدولي كان فنان الكاريكاتور السوري المرموق جليدان الجاسم الذي كان يعمل في جريدة تشرين الرسمية. وجليدان وهو من الطائفة السنية ينتمي الى مدينة الرقة وربما كان هناك بعض الصلات بين عشيرته وافخاذها وبطونها وعشائر العراق.. ولكنه كان على مستوى عال من الثقافة والمدنية والرقي انه كان يقدر ويحترم هذه الصلات ولكنها لم تكن هي ما يدفعه لاتخاذ موقف سياسي او غيره! كان دافعه هو رأيه ومعتقداته وشخصيته!
وكان جليدان شخصا طريفا ذو مظهر طريف. متوسط القامة، نحيل، طويل الشعر أشعث واشيبه.. وأكثر ما يميزه كان شاربه الطويل الأشيب الذي تلتف أطرافه لتلاقي الهواء بعيدا عن وجهه! وعلى هذا المظهر كان يعشق ان يرتدي معطفا عسكريا فضفاضا ذو جيوب كبيرة!!
كانت هذه ربما العلامة الثقافية لهذا الكاريكاتوري!
… وحصل ان الاستخبارات السورية حينها – ولَم تكن بالمتسامحة مع التحركات – استدعته! وأمضى بعض الوقت!
وربما كان الضابط حينها ذو حس فكاهي.. لحسن حظ جليدان او سوءه وبعيدا عن بقية التفاصيل .. عاد جليدان في الْيَوْمَ التالي او بعده الى الجريدة بنصف شارب!! جهة محلوقة والأخرى بقيت تعانق الهواء!!
وأصبح جليدان قصة يتم تداولها!! بين الصحفيين وربما عبرة فكاهية!!
ولكن جليدان ابى ان يحلق الطرف الاخر من شاربه وأرادها هو أيضا رسالة !!! وكل على طريقته!! وبطريقة ديكتاتورية ولكنها سلمية تمت مبادلة الرسائل!
واذكر وجه زميلي من الطائفة الدرزية، و اليساري الميول وهو غارق بالضحك .. وهو يستذكر تفاصيل الواقعة وما حدث عن زميلنا جليدان.. ولمن يعرف الدروز يعرف المعاني الكبيرة للشارب الذي تقف عليه الصقور !!! واظنه تخيل نفسه وشاربه هو الاخر .. ورأسه الأصلع! في مكان جليدان!!
وطبعا هناك قصص مؤلمة عن ناس ماتوا في السجون بسبب مواقف سياسية .. ولكن أيضا هناك قصص عن جنود وطنيين قضوا بسلاح المتشددين وهم يدافعون عن المدنيين. . وآلام الحرب تشهد..
ولكن هنا حديثنا هو الكاريكاتور ..
الكاريكاتور السياسي هو موقف متعدد الأبعاد يختصر بصورة وأحيانا ببعض الكلمات!! وهو يتطلب الوعي الكبير من طرفي الميزان! وكل أطراف المجتمع والقراء!
ويقال ان الانسان الذي لديه القدرة ليسخر من نفسه يكون قد وصل الى درجة عالية من الثقة بالنفس. ولعل جليدان واحد من هؤلاء!
ولعل الفاطميين – وهم ما يقارب المسلمين المتصوفين في يومنا هذا – الذين حكموا المنطقة العربية من حوالي ٩٠٠ الى حوالي ١٢٠٠ ميلادية وأسهموا بتأسيس القاهرة كانوا من أوائل من آمن بالكاريكاتير السياسي. وكانوا متواضعين يرفضون ان يسموا بأي لقب ملكي او أميري. فقط لقب الخليفة.
ويظهر هؤلاء الحكام وحاشيتهم في القطع الاثرية المتبقية من قصورهم ورسوماتها بأشكال كاريكاتورية كأشخاص بديني البنية.. وأشكال ووجوه تحاكي شكل الارنب المبتسم ذو الأسنان الكبيرة الذي يحاولون اصطياده! وطبعا الحكام الفاطميّون هم من وافق وسمح بهذا النوع من الرسومات لشكلهم!
ويد الفنانين الذين رسموا هذه الأشكال الكاريكاتورية لم تكن اقل إبداعا من رسامي يومنا هذا.. لا بل وان اردنا قراءة اسم الفنان علينا مثلا ان نقلب الوعاء رأسا على عقب لانه كتب اسمه باتجاه معاكس!!
اجداد جليدان .. لم يقلوا إبداعا عنه وان اختلفت الطوائف.. هم اجداده حقا!