بقلم: تيماء الجيوش
ألقت النظرة الأخيرة على جدولها و ابتسمت سعيدة بان اليوم لن يكون مُنهكاً و العمل سينتهي سريعاً ، ما يعني ربما ساعتان تستطيع أن تنجز بهما بعضاً من الاتصالات الضرورية مع موكليها للحصول على إجاباتٍ هامة متعلقة بملفاتهم و ربما قد تتطلب إجراءاتٍَ قانونية أو ترتيب الخطوات القادمة و ذلك كلٌ بحسب دعواه. لطالما احبت الخروج للعمل باكراً و كيف لا و المحاماة هي مهنتها وشغفها الذي لا ينازعه شغف و إنهاء ما عليها وفقاً لجدولها اليومي يعني دوماً انه يوم جيد. و ضعت اوراقها في حقيبتها حيت والديها مجتازةً حديقة دارها و ما أن وصلت الباب الخارجي حتى تعالى صوت هاتفها ، أسرعت بالرد لتجد صوته مُسرعاً تعباً تختلط كلمات تحيته مع جملٍ متلاحقة أنهاها بقوله ارجوك أستاذة ندى إن سمح وقتك اليوم ان تذهبي لحضور الدعوى اليوم نيابةً عني ، هي اول جلسة ، هناك ظرف طارئ يمنعني من ذلك و كل الأسئلة و ما غاب من التفاصيل ستجديها لدى الموكلة ستنتظرك هناك في ردهة المحكمة . كما أن الملف بأكمله سأرسله لك إن رغبت في ذلك. ردّت تحيته بأطيب منها و أطمئنت أولاً أن ما ألّم به ليس بالخطير أو يمس أفراد عائلته فهو محامٍ و زميل عزيز عليها ، ثم أكدت له و بترحاب أنها ستنوب عنه اليوم في جلسة المحكمة ما دام الأمر طارئاً جداً ، فلديها الوقت و لحسن الحظ . أخذت ارقام الهاتف الخاصة بالموكلة و هي تعلم يقيناً أن الجلسات الأولى غالباً ما تكون لتبليغ الطرف الخصم و ما بقي هو إجراءات شكلية لا جذرية أو معقدة وليس فيها ما يدعو إلى إلمام ٍ دقيقً ٍبتفاصيل الملف. و صلت المحكمة و خلال دقائق كانت تلتقي في ردهة المحكمة موكلة زميلها ، إمراةً خجول ، اسمها عادلة ، تواري نظراتها عنها وتشكرها بأدب جمّ قبولها النيابة عن محاميهم الأصيل ما أن انتهىت من جملتيها حتى وجدت سيدة متقدمة تتجه صوبهما ببطءٍ لكن بثبات يرافقها شابٌ صغير لا يتجاوز السابعة عشر. سارعت عادلة إلى تقديمهما فالأولى هي أمها تتكئ على حفيدها ابن عادلة.
تفاجأت بالأم تبادر و تقول «أنا لا أريد أرثي يا استاذة ، هذا عيبٌ و عار عليّ، لو كان أبي حياً لبقي المال كله في جعبته ثم إن أبناء اخي هم من سيحملون اسم عائلتي ، هم من لهم الحق بالمال و لست أنا، أولادي هم ابناء رجلٍ غريب، ألا توافقيني يا أستاذة؟ ثم أردفت لو كان أبي حياً الآن لما استطعت النظر في عينيه ، وكيف لي و أنا أتعدى على ماله. أليس المال أصحابه أحق به»؟ ابتسمت وأكدت لها ان كل ما تود قوله سيُنظرُ به ، لكن اليوم الجلسة ستكون شكلية لا اكثر ولا اقل ثم استدارت نحو عادلة متسائلة عن ملخص الملف.
تفاجأت بأن عادلة و أمها هما مدعى عليهما من قبل طرف الادعاء و ان الأمر متعلق ببيع عقار يعود للجد الذي توفى من امدٍ بعيد وولده هو من كان يستثمر العقار حيث الريع يعود له كاملاً و الذي ايضاً توفى حديثاً . قرر ورثته البيع وهذا يستلزم وثائق معينة فلا بُدَّ من استخراج حصر إرث و توقيع عقد البيع بحسب الأصول القانونية من قبل جميع الأطراف . أثار البيع و ما يستوجبه من خطواتٍ قانونية حفيظة الأم ، فهي ترى أن كل ما يمتلكه الجد يجب ان يعود إلى ابناءه إلى العصبة أي إلى أخيها وورثته . ما حاجتهم اليها في حصر الإرث؟ ما هي صفتها؟ ما حاجتهم اليها في توثيق البيع ؟ و لماذا؟ هي لا تجد نفسها أهلاً للإرث و لا تقبل به ، تراه ليس حقاً لها، ترى نفسها مُتعديةً على حقوق شقيقها و أولاده، تجده حصولها على إرثها عيباً ، تراه خيانةً لأبيها ، و الأكثر من ذلك أن المال سيذهب بعد وفاتها إلى ابنتها أي إلى أولاد رجل غريب ثانٍ. فهل هذا يصحُ يا استاذة؟ التفتت ندى نحو الأم مُشفقةً و مدركةً لقوقعتها الاجتماعية التي أغلقتها على نفسها، اشفقت على اجيال متعددة من النساء أطلقن على دونيتهن أسماء مختلفة و عبّروا عنها بطريقةٍ تفتقدُ الاعتداد بأبسط حقوقهن ، أشفقت على العمر الذي مضى دون أن تدرك امرأةً واحدة بأن الإرث الذي ترفضه و تباهي برفضها له إنما هو حق و ليس اعتداءً على حقوق ما بقي من الورثة . يثير استغرابها هذا الحماس الزائد لدى بعض النساء في نبذ الصلة و الأحقية ، كيف يُمكن لامرأة أن تجد نفسها أقل من اخيها الرجل أو دوناً عنه أو ليست صاحبة حق مساوٍ لحقه؟ لا جدال بأن للجميع حق القبول أو الرفض لكن ان يكون منبت الرفض هو أنها امرأة و ليس لسببٍ آخر فهو التمييز بعينه و باسوأ صوره ، فأولادها لن يحملوا اسم الجد و لن يكونوا امتدادا لنسبه الميمون، أية مغالاةٍ في الانتقاص من الذات و أية ظروفٍ اجتماعية – ثقافية أوجدت هكذا دونية؟ حاولت ندى ان تستميل السيدة بالقول بأن لها كل الحق في أن تُعبّر عن رأيها و أنها قانوناً وريثةً شرعية لذلك من الهام تتبع الإجراءات و حضورها و لها ايضاً ان ترفض حصتها الإرثية لكن هناك إجراءاً قانونياً مُتّبعاً و لها بعد ذلك ما تريد إن ايجاباً أو قبولاً . إزداد عناد السيدة و أردفت بأن القانون مخطئ و لا بد من تصحيحه.
ابنتها تزداد حيرتها و ابنها صامت اكتفى بالوقوف و متابعة الحديث . نظرت ندى إلى السيدة و سألت إن كان الأمر كذلك فلما أتيت إلى هنا اليوم؟ أجابت أنها قدمت لتُخبر القاضي برفضها. أشفقت ندى عليها أكثر ، فما يجري هو بعيد كل البعد عما يدور في خلد امرأة تفتقر إلى المعلومات و قد قررت أن تبارز في المكان الخاطئ كي تبرهن المرة تلو المرة و بشكلٍ مجاني بأنها هي من تحافظ على حرم التقاليد التي عفا عليها الزمان و مضى . نظرت ندى إلى عادلة و سألتها هل تحتاجون هذه الحصة الارثية أم أنكم مكتفون مادياً؟ فأجابتها و هي تجانبها النظر بل نحتاجها ، لدي أطفال و هذا ابني لن يمضي وقتاً طويل حتى يبدأ دراسته الجامعية، هذه الحصة ستُعينني حتماً لكن المال مال أمي و القول قولها. كان لا بد لهذا الموقف ان ينتهي فهي و إن كان لديها الوقت فليست في بحبوحة منه اليوم ، عليها ان تمضي و تُكمل بقية جدولها اليومي. هي تعي ان هذا جدالا لن ينتهي و تعي اكثر ان هذه السيدة هي نتاج سنين ثقافة معينة لا يمكن حلها ببضعٍ من الوقت في اروقة المحاكم . بل الأحرى هي ضحية و ليست نتاج . على أية حال عليها ان تجد حلاً سريعاً فالأمانة المهنية تستلزم منها ان تبذل العناية . توجهت ندى إلى أم عادلة بالقول : ما رأيك و لمصلحة ابناء شقيقك ان تُكملي حصر الإرث أما المال فلكِ ان تتنازلي عنه كيف شئت لاحقاً؟ تأكدي تماماً أن هذا سيكون لمصلحتهم و انك بهذا تكونين قد أزلت عبئاً عن كاهلهم ، وتأكدي اكثر ان هذا لن هذا لن يؤثر على رغبتك و إرادتك في التنازل ، ما رأيك؟ كما ان بقاءك هنا و لمدةٍ طويلة سيتسبب في المزيد من الإرهاق ، أليس كذلك؟ صمتت أم عادلة قليلاً و أردفت أوافق ما دام ملك ابي سيبقى لأبناءه وأحفاده. خرج الجميع من المحكمة بعد ان تم تثبيت الحضور في الجلسة . فارقتهم ندى و سارت في ظل الشجر الوارف فالقيظ يزداد مع انتصاف النهار التفتت إلى يمناها لتجد عادلة و عائلتها يسيرون بخطٍ موازٍ لها على الطرف الآخر من الشارع لا زالت الجدة تتكئ على حفيدها وتمسك بيدها الأخرى ابنتها كي تستطيع السير . كم المفارقة مؤلمة ، لا تستطيع ان تخطو بدونهم ، هم سندها ، هم من يعتني بها ، هم الأحياء ، هم من لهم العمر القادم ، ابيها رحل و كذلك اخيها ، هم الماضي ، تحرص على دونيتها و كأنها بهذا ترضيهم في مماتهم ، تؤكد لهم انها لن تتجاوزهم ، و كيف لها ذلك . هي امرأة ليست إلا .
اسبوع سعيد لكم جميعاً.