بقلم: محمد منسي قنديل
مرة واحدة رأيت هذا السائق وهو يقودني لأحدى القنوات الفضائية، الطريق الدائري الذي كنا نسير فيه هو واحد من اشد الطرق قبحا في العالم، تحيط به مجموعات من المباني العشوائية، جدرانها من الطوب الاحمر العاري بلا نقش ولا طلاء، تذكرك بوضوح أننا التهمنا مساحات الخضرة والزرع الوفير، وقصفنا هامات النخل العالية، لنزرع بدلا منها هذه المباني البشعة، رغم أن الصحراء على بعد أذرع من المدينة، كان الطريق الدائري عاديا بزحامه، وبالرعب الذي تثيره فينا الحافلات الضخمة، خاصة عندما تدوي أبواقها الصارخة حتى نهرب من أمامها، ولكن السائق لم يكن عاديا، شديد التهذيب، انيق الثياب ، خافض الصوت، يقود السيارة وكأنه يسبح وسط بحار صعبة، كان الطريق من منزلي وحتى مبني القناة في المدينة الاعلامية يستغرق ما يزيد عن الساعة، وإذا غضب علينا الطريق وعرقل سيرنا، وهو ما يحدث عادة، تضاعف هذا الوقت، وبات علينا أن نجد بيننا مادة للحديث حتى نفلت من خنقة الزحام وتلوث العادم، وكالعادة لا يتحدث الناس الآن إلا في السياسة، وبدأت الحديث معه من المدخل السحري، السؤال عن الأولاد، قال لي ببساطة: “عندي ابن يدرس الباليه، وبنت في السنة الأخيرة في إحدى مدارس اللغات، وهناك بنت ثالثة أصغر سنا”، باليه ولغات أمر غريب بالنسبة لسائق متواضع في شركة صغيرة تؤجر السيارات، قلت ضاحكا: “هل يعني هذا إنك كنت تحب الباليه”؟، قال بجدية: “ابني يحبه وهو راقص ماهر كما يقول اساتذته وعلى وشك التخرج هذا العام”، قلت: وابنتك الأخيرة؟ سألته وأنا أتوقع أن يقول لي أنها ستقود أوركسترا القاهرة السيمفوني، ولكنه قال: “كانت هي أيضا في أحدى مدارس اللغات، ولكنني في هذا العام اضطررت لنقلها إلى مدرسة عادية”، وبدأت رنة الأسى تخالط صوته، هكذا تستقيم الأمور، فالحياة الصعبة في مصر لا تعطي لمتوسطي الدخل أي رفاهية في التعليم فما بالنا بسائق يفني حياته على الطرق الممتدة، قال بصوت خافت: “أنا من ضحايا الثورة، اكلتني فيمن أكلت دون أن تنتبه لوجودي”، فكرت في نفسي: شكوة أخرى من ثورة يناير المنكودة الحظ التي لا يوجد أحد إلا ويشتكي منها، حاولت أن افهم كيف تدهورت أموره: “هل كنت تعمل مهنة أخرى قبل أن تكون سائقا؟”، قال: طوال عمري كنت سائقا، ولكن لشخصية مهمة، احاطت بنا الشاحنات من كل جانب، وجاءت سيارة من عكس الاتجاه تفاداها السائق بصعوبة، ثم توقف السير، وأخذت سحابة من العادم تتجول فوق رؤوسنا، واصل الرجل القول: “كنت سائقا لرئيس الوزراء الاسبق”، قلت: “اي رئيس فيهم، لقد تكاثروا في الفترة الأخيرة؟ “ قال: الذي سبقهم جميعا، الدكتور أحمد نظيف، فكرت في نفسي: الرجل الذي فقد مكتبه الأنيق في القرية الذكية، وترك زوجته الجديدة، وجرب زنزانة أنيقة في سجن طرة قبل أن يخرج ويعتزل الحياة العامة، وهو بالمناسبة خريج كلية تكنولوجيا الاعلام، جامعة مجييل، ما أشد ما يتقلب الزمان، يواصل الرجل يقول: “ظللت معه 12 عاما كاملة، شاهدت رحلة صعوده من مركز المعلومات في مجلس الوزراء، إلى منصبه كوزير للاتصالات، ثم رئيسا للوزراء، تركته فقط عندما دخل السجن”، انفتحت الطريق أمامنا، وكنت أود أن يبقى مغلقا لأسمع بقية الحكاية، عاد يقول: “ كانت هذه أفضل فترات حياتي، في آخر كل شهر كنت أجد مغلفين في انتظاري، في أحدهما مرتبي، وفي الآخر مصاريف تعليم أولادي، لذلك لم احمل هما للحياة، كنت واثقا أنه بشخصيته وتكوينه الجسماني لايوجد من يستطيع اسقاطه”، قلت: “ولكن الثورة اسقطته”، قال: “وهنا بدأت مأساتي، سحبت مني السيارة الرسمية ووجدت نفسي بلا عمل، بلا نهاية خدمة أو معاش أو أي شيء، لم أكن وحدي، كنا أكثر من 400 شخصا، موظفون وسكرتارية وفراشين، وجدنا أنفسنا فجأة بلا مصدر للرزق، تجمعنا ورفعنا قضية نتظلم فيها من رفدنا جميعا بلا ذنب، ولكن القاضي رفض القضية من الجلسة الأولى، شطب بجرة قلم على أملنا الأخير، وكان لي أن اواجه الواقع وأبحث عن عمل في هذه أيام مضطربة، جمعت ذهب زوجتي، وأخذت النقود التي كانت تدخرها أمي للقيام بالحج، والنقود التي يحتفظ بها أخي لخطوبته، ودفعناها جميعا لمقدم للتاكسي الأبيض، وبدأنا العمل عليه، أخي الاصغر في فترة النهار، وأنا في الليل، وللمرة أولى ارى شوارع القاهرة وأدرك مدى صعوبتها، عندما كنت أقود سيارة الوزارة لم أكن اشعر باي زحام، إشارات المرور كانت تنفتح أمامي، والسيارات تتنحى عن طريقي، ولا يوجد شرطي أو ضابط يجرؤ على التحرش بي، ولكن في سيارة التكسي تحولت إلى “ملطشة” لأي أحد ، لخنقة الزحام ولابتزاز أمناء الشرطة” يسكت قليلا قبل أن يروي لي الجزء الثاني من مأساته، مضت عليه ثلاثة اشهر فقط من شرائه للسيارة الجديدة، كان الأخ الأصغر يقودها في العاشرة صباحا، في هذا الطريق الدائري، ومعه ثلاثة من الركاب، أنقضوا عليه فجأة وأخرجوا نصالا قاطعة، أمروه أن يغادر السيارة ويمضي، ولكنه رفض، لم يكن ليتخلى عن حلم الاسرة، السبوبة الوحيدة التي يعيشون عليها، وهوت عليه الطعنات من كل جانب، وسط زحام السيارات، وتحت أنظار السائقين، يوشك السائق على البكاء: “قطعوه.. القوه على جانب الطريق مكسو بدمه، وفروا بالسيارة هاربين دون أن يتدخل أحد”، انشغلت الأسرة كلها بالأخ الصغير ونسيت كارثة ضياع السيارة مؤقتا، كان في حاجة إلى نقل دم وأكثر من عملية واستغرق وقتا حتى يتمسك بأهداب الحياة، ولازال يعاني من شلل في ساقه حتى الآن ، يقول: “انتظرت طويلا ليتصل بي الخاطفون ويطلبوا مني فدية السيارة، لم يفعلوا، ثم بدأت رحلة البحث عنها”، توسل الرجل إلى كل الذين كانوا يعرفونه أيام كان سائقا مهما، لجأ للمخبرين والمرشدين الذين قادوه لأشهر لصوص السيارات، وأخذ ينتقل من لص لآخر، تعرف بعضهم على السيارة وصفوا له رحلة سرقتها، لم تكن هناك شرطة يخافونها، كان عالمهم السري محكما، وقادته المعلومات التي حصلت عليها إلى سيناء، وتحول اللصوص من صعاليك المدن، إلى البدو المهربين، واقتربت الدائرة حتى مدينة رفح، وهناك تقابل مع المهرب الأكبر، شيخ منسر القبائل، الذي تتلاقى عنده كل الطرق، قال له بوقار القراصنة: “لقد تأخرت، السيارة عبرت النفق منذ اسابيع، ولكننا نحتفظ لك برخصتها”، ومد يده إلى جيبه ، وأخرج عشرات الرخص المغلفة بالبلاستيك، وسلمه أحداها، وانتهت الرحلة، يقول: “هذا كل ما تبقى من التجربة، أخ مصاب ورخصة بلا سيارة”، صمتنا طويلا، لم تكن هناك فائدة من اي كلام للتعزية، فالجروح التي نعاني منها، والثمن الذي دفع كان باهظا، ولكن كان لابد للثورة من ثمن، يقرأ السائق أفكاري، يقول: أدرك ان هناك من يضيعون تحت الأقدام، ولكن لو كان الثمن الذي دفعته ودفعه الآخرون غيري عاد بالخير على البلد، كان هذا سيعزيني، على الأقل ستكون هناك بلدا صالحة للعيش ، ينعم به أولادي وأولادهم، ولكن حتى الآن، ضاع كل شيء دون ثمن”، ومضت بنا السيارة مخترقة الظلام الكثيف التي لم تقدر عليه الأضواء المتناثرة.