بقلم: شريف رفعت
أنا مُرْهَق مُنْهَك مُتْعَب، نفسيا هذا و ليس جسديا، بالتأكيد القدر الشرير يضطهدني، معيشتي في المهجر تزيد الأمور تعقيدا، لا أود إطلاقا أن أغرق في منظومة شجن تدين بلد مهجري بكل ما هو مادي و شرير و تَسْبُغ على بلد منشئي كل ما هو حالم و إنساني، لكن الواقع أني لا أجد هنا من أستطيع أن أفتح له قلبي بكل ما فيه من جراح، من أضع رأسي على كتفه و أبكي و أنا أحكي، مجرد البوح و الشكوى هو كل ما أحتاج إليه، فأنا لا أنتظر نصيحة من أحد و أعلم أن الحل لمشاكلي إذا كان هناك حل سيأتي لاحقا و سيكون حلا ربانيا عندما ينحاز ربي لصفي ضد قدري القاسي. رغم وجود أفراد أسرتي حولي إلا ان هناك حائل نفسي يمنعني من البوح لهم بآلامي، قد يكون ذلك لأني رب الأسرة الذي يلجأ أفرادها له للبوح بآلامهم و ليس العكس، فأنا لا اريد ان أضيف إلى أي منهم مشاكلي حيث لكل منهم مشاكله، لي أيضا العديد من الأصدقاء المفروض أنه يمكني الحديث معهم لكن هناك ثقافة ذكورية تسيطر علينا هنا في الغرب مفادها أن الرجل الحقيقي لا يشكو و لا يبكي و أن الصديق المناسب السَوِي يجب أن تكون لقاءاته مرحة خفيفة و ليس مناسَبَة للشكوى و بث الأحزان و الشجون، قد يكون السبب أيضا في إحجامي عن البوح لأصدقائي بمشكلتي هو عدم رغبتي أن أكون موضع عطف و شفقة أشخاص أعيش بينهم و أتعامل معهم يوميا.
بالتأكيد لو كانت أمي على قيد الحياة للجأت إليها و بُحْتُ لها بما يعتمل في صدري و لوجدت في تفهمها و حنانها خير معين، هداني تفكيري أن خير من أتحدث معهم عن أحوالي و مشاكلي هم أصدقاء طفولتي و شبابي في مصر، قررت إذا أن أزور مصر في رحلة بوح و مواساة، فعلا سافرت في رحلة لعدة أسابيع و قد عزمت على أن ألتقي بسمير عبد المعين، سمير بجسده الضخم و قامته الفارعة و قلبه الكبير و حكمته الصائبة، أتذكره بمثابة الأخ الكبير لكل أفراد مجموعتنا عندما كنت أعيش في مصر، و ها أنا ذا سألجأ إليه بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما على هجرتي، سأجلس معه على انفراد و أبوح له بكل ما يعتمل في صدري، سأحكي له كيف أن ما أمر به أثر تأثيرا مهولا على نفسيتي و عن الازدواجية التي أعيشها حيث أنا إنسان بشوش مرح في الظاهر بينما أكتم و أخمد معاناتي بداخلي، كيف أصبحت أؤمن بالحسد بطريقة سخيفة ساذجة غير منطقية كما لو كان هو المسئول عن معاناتي، و كيف أصبحت أكثر من الدعاء بطريقة محمومة، و عن إدماني خفية الاستماع للأغاني الحزينة المليئة بالألم و الشجن كأنها تحكي حكاية حياتي، أكيد عدة جلسات مع سمير صديق شبابي ستفيدني نفسيا و تعيد شيئا من التوازن لشخصيتي.
وصلت مصر، في نفس يوم وصولي اتصلت به، اتفقنا على اللقاء في اليوم التالي، تعمدت اللقاء في نفس المقهى الذي اعتدنا أن نجلس فيه في شبابنا قبل هجرتي، في الميعاد المحدد حضر يصحبه ابنه، احتضنته مرحبا، ظهر عليه الكـِبـَر بطريقة ملحوظة بالمقارنة بما كان عليه عندما قابلته في زيارتي السابقة منذ أربعة سنوات، فقد بعض وزنه و إن كان جـِرْمُه مازال عملاقا، يعرج قليلا لذلك يستند على ابنه في سيره، شد ابنه زياد على يدي مرحبا قال أنه سيعود بعد ساعتين لاصطحاب والده و العودة به في سيارة الأسرة، كان الابن شابا وسيما أنيق في ملبسه بطريقة ملحوظة و يبدو عليه العناية الفائقة بمظهره، قبل انصرافه قال لوالده “إذا احتجت لشيء اتصل بي هاتفيا”، أسلوبه في الكلام كان غريبا بعض الشيء، كأنه أب يتحدث لابنه الصغير.
قلت لسمير “منذ فترة و أنا أفكر في الجلوس معك، أريد أن أتحدث إليك كما كنا نفعل في الأيام الخوالي، أنا محتاج منذ مدة لهذه الجلسة”، نظر لي نظرة يختلط فيها الحب بالحيرة، نظرة مـُـغـَيـَبـَة بعض الشيء، نظرة غريبة على سمير الذي كان معروف بيننا بالذكاء و الحضور و التوقد، قال لي كأنه لم يسمع ما قلته عن رغبتي في الحديث معه “كيف أحوالك و أحوال بلدك؟ هل عندك أولاد؟”، صدمت من سؤاله فهو قد قابل زوجتي و أولادي عدة مرات في زياراتي السابقة و يعرف الكثير عن تفاصيل حياتي الأسرية، تجاهلت سؤاله و سألته “ماذا جرى لساقيك؟ تعرج قليلا”، أجاب “أجريت جراحة لتركيب مفصل صناعي في عظمة الفخذ، جراحة كبيرة من حوالي سنتين”، صمت برهة ثم قال ناصحا “لو أجريت جراحة فلا تأخذ مخدرا كليا، اكتفي بالمخدر الموضعي، بعد جراحتي و بسبب المخدر الكلي أصبحت كثير النسيان”، سادت برهة من الصمت بيننا، بحثت عن شيء أقوله، أخيرا قلت “ما عدا موضوع الجراحة، كيف أحوالك و أحوال الأسرة؟ زياد ابنك ما شاء الله يبدو شابا . . .
قاطعني كأنه لم يكن يصغي لكلامي “حسنا أنك حضرت في زيارة و أنك اتصلت بي، أنا محتاج أن أجلس مع صديق و ان أبوح له بما يعتمل في صدري، بالجحيم الذي أعيش فيه بما لا أقوى على مصارحة أحد به ممن يعيشون حولي”، كان يتكلم بسرعة و بانفعال و تأثر، صدمت من كلامه، انتهزت فرصة توقفه لالتقاط أنفاسه و سألته “خير يا سمير، ما الحكاية؟”
“لا، ليس خير، سأدخل في الموضوع مباشرة، زياد ابني له صديق، ليس صديق بالمعنى المألوف، ليس صداقة كصداقتنا، هو رفيق له”، أكيد رأى ملامح الحيرة على وجهي و محاولتي لفهم ما لا أود فهمه، أكمل و هو في قمة انفعاله “رفيق، يعني هما يعاشران بعض، لاحظت بعض تصرفاته التي لم تعجبني فانتقدتها، فصارحني بالحقيقة الشائنة، عندما ثرت عليه أخذ في الهجوم على مفاهيمي القديمة البالية العنصرية كما يدعوها، و امتد هجومه و انتقاده إلى المجتمع بأسره، يعني أصبحت انا و المجتمع المتهمان، عرفت هذا الموضوع من حوالي شهر و من وقتها و أنا محطم منهار، الغريب و المفجع أنه بدأ يتحدث عن مصارحة باقي افراد الأسرة بالموضوع، و يلوح لي بمبادئه و بعدم الكذب و الادعاء، أصبحت أنا من يرجوه كي يحتفظ بالأمر سرا، تخيل وقع هذا الخبر على أمه و أختيه و زوجي أختيه، هل تفهم ما أمر به؟”، نظر لي مستغيثا ثم سأل “ماذا يجب أن أفعل؟”، الرجل ينتظر مني حلا، يا لسخرية القدر، كان يجب أن أقول شيئا فقلت “أنا معك في أنه يجب ألا يصارح الأسرة بهذا الموضوع”، كان ينتظر مني المزيد فاستمريت “بالنسبة لك لا تجعل موضوع واحد أو مشكلة واحدة مهما كانت كبيرة تدمر حياتك، الحياة بها نواحٍ عديدة حتى لو أحدها مؤسف هناك باقي حياتنا، أكيد بها إيجابيات كثيرة، أنظر إلى الجانب المضيء، إلى الإيجابيات الأخرى في حياتك”.
حملَقَ سمير في كأني مـُخـَرِف، نظرت في مرآة المقهى التي تواجهني فوجدت شكلي فعلا شكل مـُخـَرِف، صمت لبرهة، مازال سمير ينظر لي في انتظار حلٍ لا أملكه، قلت بشيء من الفتور “عندنا في الغرب عموما، و لا أدعي أن هذا صواب أو خطأ، وصل المجتمع لنوع من التصالح مع نفسه بهذا الشأن، فهو يعتبر أن فعل هؤلاء الناس هو محض اختيار شخصي لهم لا يجب أن يعاقبوا أو حتى يلاموا عليه، و إن كنت اعتقد أحيانا أن المجتمع قد فقد بوصلة الصواب و الخطأ لتماديه في هذا الاتجاه، لكن المهم أن هؤلاء الناس لا يـُنْظَر لهم نفس النظرة المتمادية في السلبية التي يُنْظَر بها لهم هنا، أنا مثلا لا أقبل سلوكهم الجنسي لكني لا أنظر لهم على أنهم فاسدين في جميع نواحي حياتهم، فأكيد منهم من هو مُجِد في عمله، مؤدب، يمكن الثقة به و هكذا، و هذا الرأي المحايد العقلاني هو ما نفتقده هنا”، ما زالت نظرة اتهامي بالتخريف مرسومة على وجه سمير، لم يكن أمامي سوى تغيير الموضوع فبدأت أحدثه عن الأيام الخوالي، عن أحداث شبابنا، عن الباقين من أفراد المجموعة، ثم انتقلت إلى أحوال البلد، و كيف تسير و انطباعي بخصوصها، كنت اتكلم باستمرار و بشيء من الحماسة المصطنعة، أشك انه كان يستمع، ما زالت ملامح الألم مرسومة على وجهه، قبضت على يده و قلت له بصوت حاولت أن أجعله متفهما مواسيا حنونا “سمير، هـَوِنْ عليك”، و كأن عبارتي هذه قد فتحت الباب لفيض مشاعره و احزانه فانفجر في البكاء، بكاء عنيف هز جسده الضخم كله، نظرت حولي بقلق، حمدت الله أن جلستنا في ركن منعزل من المقهى فلم يلاحظ أحد بكاءه الذي تحول إلى نحيب، أخذت أتمتم ببعض العبارات المواسية الواهية، أخيرا كف عن البكاء، مسح عينيه و وجهه و أنفه، و أخذ عدة أنفاس عميقة ثم قال “أنا آسف، أشعر أني أحسن الآن”، تزامنت عبارته هذه مع عودة زياد، نظر لنا كأنه يحاول أن يستشف إذا كان أبوه قد باح لي بسره، ثم قال أنهما يجب أن ينصرفا سريعا حيث قد أوقف السيارة في مكان ممنوع، شددت على يد سمير مع وعد بلقاء آخر قريب، انصرفا و الأب يحاول جاهدا بخطواته الواهنة أن يلحق بخطى ابنه المسرعة.
جلست على مقعدي في الركن المعزول من المقهى أحاول استيعاب مأساة صديقي، تخيلته أمامي يذرف دموعه منذ لحظات، أدركت أن هناك شيء نبيل، شيء إنساني، شيء مقدس في دموع الرجال، في هدوء كان الدور علي أنا كي أبكي.