بقلم: نعمة الله رياض
إستقل الطبيب / لطفي ميكروباصاً من ميدان الجيزة إلي قرية بمحافظة بني سويف، وذلك لإستلام عمله في الوحدة الصحية التي تم توزيعه عليها ، وهي أول وظيفة يعين فيها بعد تخرجه من كلية الطب .. في الوحدة الصحية رحب به العاملون فيها ، وخصصت له حجرة تابعة لإستراحة الأطباء .. مرت الأيام وهو يعمل بحماس لخدمة سكان القرية وأصبح الروتين اليومي يشتمل علي معاينة مرضاه في العيادة الداخلية. وإكمال واجباته في الكشوفات الخارجية ، وملئ زجاجات للمرضي الفقراء المنتظرين الأدوية المركبة الرخيصة، ومن ثم، يكمل رحلته ليزور حالات اخري في الجانب الآخر من القرية للكشف على المرضى المنتظرين بصبر مروره عليهم في منازلهم . كان يفضل دوماً السير على قدميه، إذ يعتقد أن الحركة تعيد إليه نشاطه وحيويته.. تلك القرية الصغيرة والغريبة بطابعها الخاص ، لا تحتاج لشيء سوي العمل، والكدح، والإنتقال المستمر من مسكن إلى مسكن بين المزارعين واصحاب المهن الصغيرة ، هذه الحياة الشاقة أرهقته تماماً، لكنه في الوقت ذاته كان يشعر بالرضي الشديد عنها. كان وجوده في مساكن المزارعين حافزاً له، وكان يتحرك متأثراً بواقعهم الخشن. كانت أعصابه مستفزة ومشبعة.. في وسعه أن يتغلغل عميقاً في الحياة الخاصة للرجال والنساء من مرضاه ، كانوا جميعاً يحكون له أسرارهم ومشاكلهم بالغة الخصوصية ، كانواعاطفيين جداً، خشني الطباع، وعاجزين عن التعبير بوضوح عن آرائهم.. كان متذمراً،. لكن والحق… يقال.. أثاره ذلك، كان الاتصال والتماس مع الناس البسطاء، شديدي الإحساس، محفزاً قوياً يمس أعصابه مساً مباشراً. من العائلات التي شدت إهتمامه وعطفه هي أسرة الحاج / السلموني والذي توفي مؤخراً بعد أن توفيت زوجته بأقل من عام واحد وتركا الأبن الأكبر سويلم والإبن الأوسط جابر وأخيرا الإبنة الصغري رابحة .. كان الطبيب / لطفي يواظب يومياً علي زيارة الحاج / السلموني أثناء مرضه وحتي وفاته ..والواقع انه كان طوال فترات زياراته ، شغوفاً بمراقبة رابحة، مشدوهاًبجمالها الفتان ومعجبا بنشاطها وحرصها علي إدارة شئون المنزل باخلاص وتفاني .. لم تمضي سوي أيام قليلة علي وفاة السلموني ،حتي طرق باب المنزل رجل عرف نفسه انه محامي الدائنين ، علم أبناؤه أن اباهم توفي وعليه ديوناً يلزم سدادها خلال أسبوع واحد علي الأكثر وإلا يجب أن يتنازلوا بالبيع عن قطعة الأرض الزراعية البالغة نصف فدان ، كذلك عن منزلهم المقام عليها .. جلس الأشقاء في اجتماع عائلي كئيب ، كانوا مذعورين من الكارثة التي أحاطتهم جميعاً، لم يُبقِ لديهم أيَّ إحساس بالحرية في العثور علي منفذ أو حل ينقذهم ويحفظ كرامتهم.. نظر الإبن الأوسط جابر بانفعال إلى شقيقته رابحة، التي كانت جالسةً بلا حراك، وعلى وجهها تلوح سيماء الغموض:- ستذهبين وتمكثين عند خالتك في بني سويف بعض الوقت، أليس كذلك؟ً، لم تجبْ الفتاة. قال الإبن الأكبر سويلم بصورة مقتضبة: – “لو كنتُ مكانك لذهبت للتدريب على مهنة التمريض ، الفتاة لم تحرك ساكنا .. صاح سويلم بصوت مرتفع :-عليكِ أن تتخذي قراراً من الآن وحتى الأربعاء القادم، وإلا وجدتِ نفسكِ فوق رصيف الشارع.. اكفهر وجه الشابة، إلا أنها ظلت جالسةً بثبات. كان سويلم يراقب ذلك بعينين يائستين، تكسوهما غشاوة ، يشعر الآن أنه مرهق لحدّ الأعياء. لحسن الحظ انه كان قد خطب فتاة أكبر منه بعام ونصف ، ومن هنا فإن أباها، الذي كان موظفاً كبيراً في محافظة مجاورة ، سوف يجد له مهنةً يعيش منها هو وزوجته. سيتزوج علي أي حال ، ويُشد إلى نير الزوجية .. اما الإبن الأوسط جابر فقد قرر أن يحصل علي عمل في أي من الفنادق السياحية علي البحر الأحمر والتي تضمن له الأقامة الكامله ومرتب مغري ..
بعد الظهر خرجتْ رابحة متشحة بثوب اسود. كانت الحقول كئيبة وداكنة مضت مسرعةً غير مبالية بأي إنسان، مجتازةً المدينة متجهةً صوب المقابر.
هناك تشعر دوماً بالطمأنينة ، تناولت جرةً فارغةً من قبر مجاور، جلبتْ ماءً وبعناية تامة نظفت شاهد القبر الرخامي للمرحومة امها وهي تذرف دموعاً غزيرة .. منحها ذلك العمل القناعة المخلصة. شعرتْ بأنها في تماسٍ عميقٍ مع عالم أمها، شعرت بتلاحم حميم معها . ذلك أن الحياة التي تسلكها في العالم أقل صدقاً بكثير من عالم الموت الذي ورثته عن أمها.. ثمة بركة ماء عميقة، متصلة بمصرف المياة خارج القرية . أثناء عودته إلي المنزل ، مسح الطبيب الحقول علي مدي البصر ، ميز فيها فتاة متشحة بالسواد تجتاز مدخل الحقل، ميممةً شطر البركة. أنعم النظر من جديد، من المحتمل للغاية أن تكون تلك رابحة، لماذا تنزل إلى البركة؟ رآها بعين العقل أكثر مما رآها بالبصر الاعتيادي ،شعر بأنه سيفقدها إذا غرقت ، بكل مافي الكلمة من معنى. تابعها بينما كانت تتحرك بثبات، حركة بطيئة ، مجتازةً الحقل متجهةً صوب البركة. وهناك وقفت على الضفة لحظةً. لم ترفعْ رأسها أبداً. وبعدها جعلت تخوض في الماء ببطء.لبث الطبيب واقفاً مشدوهاً بلا حراك بينما كانت الفتاة تمشي ببطء إلى مركز البركة، موغلة أعمق فأعمق في الماء الساكن، واستمرتْ تتقدم إلى الأمام حتي ارتفع الماء إلى مستوى كتفيها. عندئذٍ لم يعدْ يشاهدها في ضوء الشمس التي غربت .. صرخ بصوت عالي:- “أنتيِ يامن هناك! ماذا تفعلين؟ .. حث الخطى مسرعاً، فوق الحقول الرطبة، استغرق دقائق معدودات للوصول إلى البركة. وقف على الضفة ، كان نفسَه ثقيلاً. لم يكن في مقدوره أن يرى شيئاً البتة ، جازف بالدخول البطيء إلى البركة، كان قاعها عميقاً، طين لين، غاص وشلتْ برودة الماء ساقيه، بينما كان يتحرك ببطئ استطاع أن يستنشق رائحة الطين البارد النتنة التي لوثت الماء كله. كانت الرائحة كريهة، ولم تستسغها رئتاه ، مع ذلك، قاوم وأوغل في البركة أكثر فأكثر. ارتفع الماء البارد حتى وصل إلى مستوى بطنه. كان القاع شديد الليونة ، كان الطبيب يخشى أن يغوص ويصبح فمه تحت سطح الماء. لم يكن يجيد السباحة، ولهذا كان يشعر بالخوف. انحنى قليلاً، نشر ذراعيه تحت الماء وجعل يحركهما حركةً دائريةً، محاولاً الإمساك برابحة . تموجت مياة البركة الباردة الساكنة فوق صدره. أوغل من جديد، أعمق قليلاً، ، وبينما كانت يداه في الأسفل، شرع يتحسس كل ماهو تحت الماء من حوله. لمسَّ ردائها ، لكنه أفلت من أصابعه. وبذل مجهوداً يائساً في الإمساك به ثانية. بينما كان يفعل ذلك فقد إتزانه، وغاص، بصورةٍ مفزعة ٍ، وصار يختنق في الماء الفاسد الترابي، مكافحاً من أجل دقائق قليلة تتيح له الوقوف مرتفعاً عن سطح الماء . في النهاية بعد فترة بدتْ بلا نهاية ، استطاع الوقوف على قدميه، انتصب ثانيةً في الهواء وتطلع من حوله. كان يلهث، وأدرك أنه مايزال حياً، ثم نظر إلى الماء. كانت رابحة واقفة في الماء بالقربٍ منه. أمسك بثوبها، وسحبها إليه، ساعياً إلى أن يجد طريقه إلى اليابسة ثانيةً. سار ببطء شديد، وبحرص.. نهض إلي أعلى ، خارجاً من البركة، أمسى الماء الآن في مستوى ساقيه؛ كان سعيداً، بعد أن تخلص من براثن بركة الماء، رفع الفتاة وسار ببطئ على الضفة، متحرراً من رعب الطين الرمادي الندي. طرحها على الضفة، كانت قد فقدت وعيها تماماً، والماء يسيل منها . جعل الماء يخرج من فمها، وبذل مجهوداً، كي يعيدها إلى وعيها ، ينبغي له مواصلة العمل فترة طويلة ً، قبل أن يشعر أن تنفسها الطبيعي عاد إليها ثانيةً. تابع عمله مدةً أطول. كان بإستطاعته أن يحس أنها تسترد حياتها تحت يديه ، عادت إلى وعيها ، بحلق من حوله في العالم المظلم ، ثم رفعها وترنح في مشيته على الضفة مجتازاً الحقول. بدا الطريق طويلاً بصورةٍ لم يتوقعه، وبدا حمله ثقيلاً جداً وشعر أنه لن يصل إلى المنزل ، لكنه أخيراً استطاع أن يصل إلى منزلها، في المطبخ أرقدها بجانب المدفأة ، جثا ثانيةً كي يعتني بها. كان المنزل خالياً وكانت تتنفس بانتظام، كانت عيناها مفتوحتين على وسعهما ، لكن ثمة شيء ماغائب في نظراتها. كانت تعي كيانها، لكنها لا تعي ما حولها. أخذ عدداً من البطانيات من الفراش، ووضعها أمام المدفأة كي تدفأ، ثم خلع رداءها المشبع بالماء، والذي يفوح برائحة الطين. جردها من جميع ملابسها المبلله وجفف بدنها العاري بمنشفة ولفها بالبطانيات.تطلعت الي وجهه، كما لو أنها كانت تحاول تذكر من هو ، إلا أنها الآن فقط أمستْ واعيةً به – دكتور/ لطفي؟ !!ماذا فعلت ؟ كان قد خلع سترته، وحاول أن يجد ثوباً جافاً. لم يكن يطيق رائحة الماء الطيني الراكد -غصت في البركة ،أخذ يرتجف مثل مريض محموم ، ولم يعدْ قادراً على العناية بها. بقيتْ تركز نظراتها عليه، بدا حزيناً، بينما هو يتطلع إليها عاجزاً. خف الارتجاف، ورجعت له الحياة مرة اخري .. – هل فقدتُ صوابي؟”.. سألتْه، بينما كانت عيناها ماتزالان مركزتين عليه ، – ربما، في اللحظة الحاضرة ، أحس بالهدوء، لأنه استعاد قواه، زايله التوتر الغريب المضطرب. – هل أنا معتوهة ؟ – أنتِي؟”، فكر ملياً. مرتْ لحظة ثم قال بصدق: لا. أشاح وجهه جانباً.. الآن هو خائف، لأنه كان يشعر بالدوار، وأحس بصورةٍ غامضة بأنها أقوى منه، واستمرت في النظر إليه بثبات طوال الوقت. – هل يمكنكِ أن تخبريني أين يمكنني أن أجد ثياباً جافة كي أرتديها؟ خيم صمت لحظة . كان واقفاً هناك خائر القوى أمامها، لكنه شعر بأن داخله دافئ، لم يرتعدْ على الإطلاق، مع أن ثيابه كانت مبللةً بالماء وملتصقة بجسده. – لماذا فعلتَ ذلك؟ – لأنني لم أريدِ أن ترتكبي مثل هذا العمل الأحمق – لم أكن حمقاء ، قالت وهي ما تزال تتطلع إليه راقدةً على الأرض، حيث كانت وسادة ألأريكة تحت رأسها ..”فجأةً نهضت ، ثم أمستْ واعيةً بحالتها. شعرتْ بالبطانيات التي حولها، وتحسست ساقيها. بدا على مدى لحظة كما لو أنها فقدت صوابها. نظرت من حولها بعينين زائغتين، وهي تفتش عن شيء ما. جمّدها الخوف، رأت ثيابها مبعثرةً على الأرض – من نزع عني ملابسي؟ -: “أنا. كي اجففك وأعيدك إلى الوعي لا تقلقي ، هل نسيتي أنني طبيب؟ على مدى لحظات قلائل لبثت تنظر إليه بصورة مروِّعة. تباعدت شفتاها. -”هل أنتَ مغرم بي إذاً؟ ، كان واقفاً يتطلع إليها مفتوناً. مشتْ متثاقلة على ساقيها تجاهه، بينما كان واقفاً هناك، طوقته بذراعيها وقبلته ، رنتْ إليه بعينين براقتين، ذليلتين.. “أنتَ تحبني. أنا أعرف ذلك، لقد كنت تنظر لي مليا أثناء زياراتك لأبي .. خفض بصره متطلعاً إلى شعرها المبلل المشوش كان مذهولاً، حائراً، وخائفاً، لم يخطر بباله أن يغرم بها. لم يرغب بالوقوع في هواها. عندما أنقذها من الغرق وأعاد إليها وعيها، كان ذلك بدافع ضميره المهني كطبيب، وكانت هي بمثابة مريضة. لم تكن عنده أي فكرة شخصية عنها. كلا، إن تدخل العنصر الشخصي كان شيئاً بغيضاً بالنسبة له، إنه تدنيس لشرفه المهني. إنه شيء مروِّع أن تطوّقه وتقبله هكذا.ومع ذلك لم يكن قادراً على الإفلات منها. تطلعت إليه ثانيةً، بالتوسل ذاته، توسل الحب القوي والفعال، الآن فقد صار أمراً لا مفر منه أن يضم وجهها إليه؛ لن يدعها تفلت منه ثانية. رفعتْ بصرها إليه، ووراء غلالة الدمع قالت وهي تتأمله : -أنا لا أبكي ، حقيقةً ، مد يده، وبرفق أمسك ذراعها الملساء قال ساعياً إلى تهدئتها :- لا تكوني حمقاء ، قبلّها وحملها بين ذراعيه.”أنا أحبك وأريد الزواج منكِ، سوف نتزوج، باسرع ما يمكن، غداً إن امكن.. تستطيعي تحديد موعداً غداً لأحضر وأطلب يدك من أخيك سويلم” .. في عصر اليوم التالي جلس الطبيب مع سويلم وجابر ومدير الوحدة الصحية في صالة الإستقبال ، بعد فترة وجيزة ، خرجت رابحة من حجرتها وهي ترتدي أجمل ثيابها، كان فستاناً من الحرير الأبيض وكان شعرها مسرّحاً ومرتباً.. ابتسمت للحاضرين الذين صفقوا بحرارة ..