بقلم: ﭽاكلين جرجس
على بعد 22 كم من يريفان الأرمنية يمر الضيوف عبر مدينة إشتاراك ، المشهورة بآثارها التاريخية العريقة وعلى مقربة منها، في قرية أوشاكان، يوجد ضريح القديس ميسروب ماشتوتس (361 – 440 م) مخترع الأبجدية الأرمنية. وفي أيام الذكرى ال1600 لميلاده أقيم على علو 1600 متر فوق سفح جبل اراغاتس نصبًا تذكاريًا لـ 36 حرفًا حجريًا و يعرف باسم “ رواق الأحرف القديمة “ و وضعت فيه لوحة حجرية تزخرفها الأبجدية الأرمنية التي يستخدمها الشعب حتى الأن و يعتبرها عاملًأ قويًا أسهم فى الحفاظ على الهوية الأرمنية خاصة فى فترات الهيمنة التركية و الفارسية ولا يزال يستفيد منها الشعب الأرمنى و يتحدثها بطلاقة كلغة حية تدوم إلى الأبد .
حيث استمر الأرمن يستخدمون اللغة اليونانية والسريانية وغيرها من النصوص الأجنبية حتى القرن الخامس، حين اخترع الراهب الأرمني مسروب ماشتوتس الأبجدية الأرمنية، فعندما قُسِّمت أرمينيا بين الإمبراطورية وفارس اعتزل ميسروب في حياة وحدة، ثم صار كاهنًا وتابع دراساته باللغات اليونانية والسريانية والفارسية ثم أصبح مبشرًا بين شعبه، ولكنه وجد نفسه معوَّق لأن الكتاب المقدس والطقوس الدينية كانت مكتوبة باللغة السريانية ولا توجد طريقة ملائمة لكتابتها باللغة الأرمينية لذلك قرر بمشورة القديس اسحق إحياء وإعادة بناء أبجدية أرمينية و استطاع تنفيذ ذلك في فترة وجيزة بمساعدة بعض العلماء الآخرين، وكان الأساس هو الحروف الصغيرة في الأبجدية اليونانية ، وبعد عدة سنوات انتهت الترجمة الأرمينية الأولى للكتاب المقدس من اللغة السريانية، ويقال أن القديس ميسروب كان المسئول عن ترجمة العهد الجديد وسفر الأمثال ، كما تمت ترجمة صلوات القداس إلى الأرمينية كان هذا حدثًا مهمًا في التاريخ الأرمني، لأنه سمح بالحفاظ على اللغة والثقافة الأرمنية حيث تعتبر الثقافة التراثية للأرمن ذات تاريخ طويل وغني بالتنوع والتعددية خاصة إن التراث الأرمني ليس عقائدى أو دينى فقط بل يشتمل على عدة مجالات من الفنون والآداب والموسيقى واللغة والعادات والتقاليد
ويشدد الأرمن دائمًا على النقاء اللغوي الذي لا يتأثر بلغة الدولة المضيفة وثقافتها خاصة بعد تفرقتهم إلى شتات فى عدد من الدول إبان فترات التهجير و المجازر على يد الأتراك فاهتموا بالحفاظ على اللغة الأرمنية و كان ذلك دافعًا قويًا واضح الأثر في العديد من الاعمال الثقافية للمؤلفين الأرمن التى كانت تهدف للحفاظ على تراث الأجداد؛ لكن لا يقتصر الأمر على الحفاظ على اللغة الأرمنية فقط بل أيضًا الحفاظ على شكلها النقي وهنا يؤدي النوع الاجتماعي دورًا مهمًا في أسلوب حديث الأرمن عن لغتهم و اعتزازهم بها على مر العصور .
و من جيل إلى جيل تحرص المدارس الأرمنية على تعليم الاطفال لغتهم الأم فى كل بلدان الشتات و من هنا جاءت فكرة فيلم “ أبجدية ماشتوتس “ للكاتب و المخرج محمد مندور الذى أخذنا معه لنزهة عبر الزمان فى مدرسة كالوسيديان الأرمنية فى مصر و كأننا ركبنا عجلة الزمن حيث وجدنا أنفسنا فى يريفان أمام قديس و راهب عظيم ونتعرف على المزيد عن تاريخ تلك اللغة المُلهمة و رحلة ابتكار حروف الأبجدية الأرمنية وكيفية استمرارها حتى الآن مستمتعين في تلك الرحلة الشيقة بأشهر معالم أرمينيا مثل الكنائس ودار المخطوطات القديمة “الماتينادران “ والنصب التذكاري للأحرف الأرمنية وغيرها من معالم أرمينا الرائعة و قبل انتهاء رحلتنا فوجئنا بإصرار قوى على ربط الماضى و الحاضر بالمستقبل من خلال عرض شيق لأطفال المدرسة يغنون بالأرمينية و يتحدثون بها عن ظهر قلب معلنون أنهم سيحافظون على هويتهم و لغتهم فى أى زمان و مكان و تحت أى ظروف أو ضغوط عازمون على التحدى للحفاظ على هويتهم أمام العولمة و هيمنة اللغات الأجنبية على الاطفال و الشباب فهم براعم ستنمو لتزهر أرمينيا المستقبل .